محفزات عديدة...لماذا انهزم المحافظين في بريطانيا لأول مرة من ١٦ عاماً؟
فاز حزب العمال البريطاني المعارض بأغلبية ساحقة بالانتخابات العامة في المملكة المتحدة بعد
الوصول إلى 326 مقعداً في مجلس العموم البريطاني المطلوبة لتشكيل الحكومة المقبلة في
الانتخابات التي أجريت في 4 يوليو 2024 واستطاع تأمين أغلبية هائلة تضمن له تشكيل
الحكومة والسيطرة على زمام الأمور خلال السنوات القادمة.
وحصد حزب العمال 412 مقاعد، بينما انخفضت مقاعد حزب المحافظين
إلى 121 مقعداً فقط، وحصل حزب الديمقراطيين الأحرار على 71 مقعداً، وأنهى 14 عاماً
من سيطرة المحافظين على السلطة.وهو ما أعلن على إثره رئيس الوزراء البريطاني ريشي
سوناك استقالته من زعامة حزب المحافظين، وقدم اعتذاره للرأي العام بعد الهزيمة
الانتخابية التي لحقت به في الانتخابات التشريعية البريطانية وعودة حزب العمال إلى
الحكم.
وسيتم العرض فيما يلي لأبرز محفزات فوز حزب العمال والتداعيات المترتبة على
هزيمة المحافظين في بريطانيا:
محفزات فوز العمال البريطاني
1- التقلبات الاقتصادية: آثار
تصريح زعيم حزب العمال السير كير ستارمر قبيل الانتخابات من أن بريطانيا في طريقها إلى أن تصبح أفقر من
دول أوروبية مثل بولندا وهنغاريا ورومانيا الانتباه حول الأزمة الداخلية التي
يعيشها البريطانيون. وفي هذا السياق، يتضح أن الوضع الاقتصادي في بريطانيا يزداد
سوءاً يوم بعد يوم، والشاهد على ذلك هو تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في مارس
2023 والذى أشار أن بريطانيا هي الدولة الوحيدة بمجموعة السبع التي شهدت ركوداً في
2023، مقدراً بنسبة 0.6%، اعتماداً على ارتفاع أسعار الفائدة والضريبة على الدخل.
وأشارت بعض التقديرات إلى سقوط
حوالي 2.5 مليون شخص في بريطانيا في براثن الفقر في عام 2023 على وقع الأوضاع
الصعبة غير المسبوقة التي تعيشها بريطانيا. ويعاني الاقتصاد البريطاني من مشاكل
هيكلية مؤثرة، كما أن معدلات الدين الحكومي مقابل الناتج الإجمالي المحلي تقارب
نسبة الـ 100%، وغيرها من المشكلات الأساسية التي تفاقم الأزمة الاقتصادية هناك.
ويأتي ذلك في سياق مواجهة العالم لأزمة
هي الأصعب من نوعها في تاريخ الأزمات الاقتصادية كأحد التداعيات الأساسية للحرب الروسية
في أوكرانيا، ومايزيد الأمر سوءاً هي حالة الغموض التي تكتنف مستقبل هذه الحرب، إذ ليس
باستطاعة أية مؤسسة دولية التكهن بما سوف يحدث مستقبلاً، أو بمصير النظام الدولي
عموماً، في ضوء السيناريوهات المطروحة التي قد تغير الخارطة السياسية والاقتصادية
في العالم.
2- الانفصال عن الاتحاد الأوروبي: تسبب
انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في خسائر كبيرة بالنسبة لها، والتي تمثل
أبرزها في تدهور علاقة بريطانيا بدول الاتحاد الأوروبي، بالتوازى مع تدهور الوضع
الاقتصادي لديها على خلفية خروجها من السوق الأوروبية المشتركة التى كانت بمثابة
عمل من أعمال التبسيط التنظيمي. وفي هذا السياق، وبحسب تقديرات مركز دراسات
كامبريدج ايكونوميكس البريطاني سيتكبد الاقتصاد البريطاني نتيجة خروجه من الاتحاد
الأوروبي خسائر اقتصادية تقدر بـ 300 مليار استرليني أي ما يزيد عن 400 مليار
دولار بحلول 2035.
ويضاف إلى ذلك، تباطؤ الإبداع،
وانخفاض الاستثمار، وضعف أداء الشركات، والتفاوتات الإقليمية الضخمة، وارتفاع فجوة
التفاوت في الدخل. وهو ما نادت بعض التيارات السياسية على إثره بإمكانية العودة
إلى الاتحاد الأوروبي مرة أخرى، أو على أقل تقدير السعي لتحسين علاقة المملكة
المتحدة بها، ولاسيما فيما يتعلق بحركة الأشخاص والعمال والمعايير التنظيمية،
وخاصة في المواد الغذائية والمصنوعات.
3- فشل سياسات المحافظين:
ترتب على النقطة السابقة أبراز مدى الفشل الذى منيت به سياسات حزب المحافظين في
بريطانيا ولاسيما في ظل الانقسامات الداخلية بين الجناحين اليميني والوسطي داخل
الحزب. وتجلت اخفاقات الحزب في انخفاض مستويات المعيشة، كما استنفدت مشاكل بعيدة
المدى طاقة الدولة.
وخلت حقبة المحافظين من شخصية
مهيمنة أو مشروع سياسي علني وشهدت تقلبات متسارعة تمثلت في اعتلاء 5 رؤساء وزارة
سدة الحكم، وجرت خلالها 3 انتخابات عامة، ووقعت أثناءها أزمتان ماليتان طارئتان
وأزمة دستورية لا تحدث سوى مرة واحدة في القرن، وخيمت فيها مشاكل طويلة الأمد
أثقلت كاهل البلاد. ويعد المحافظين من أسوأ التيارات السياسية التي اتصفت بالسطحية
والميل لممارسة الألاعيب السياسية، الأمر الذي أنهك الطبقة السياسية البريطانية
وجعلها غير مهيأة لمواجهة الصدمات الاقتصادية المزدوجة الناجمة عن الحرب في
أوكرانيا ورئاسة ليز تراس القصيرة للحكومة التي لم تتجاوز 49 يوماً.
وتأسيساً على ذلك، قد يترتب على فوز حزب العمال في بريطانيا عدد
من التداعيات الهامة التي تتضح في:
1- إجراء المزيد من التغيرات: من المتوقع أن ينتهج حزب
العمال البريطاني الكثير من التغيرات سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي؛
فداخلياً سيلجأ إلى تغيير السياسات الاقتصادية وخاصة الزراعية والصناعية يما يؤدى
إلى النهوض بالاستثمار وإعادة الانتعاش للاقتصاد البريطاني مرة أخرى بعد السياسات
غير الموفقة التي تبناها المحافظين في هذا الإطار.
وعلى الصعيد الخارجي تعهد حزب
العمال البريطاني قبل فوزه بانتهاج سياسة خارجية واقعية تقدمية، بما يتوافق مع
الطبيعة غير المستقرة للسياسة العالمية ولاسيما بعد العملية العسكرية الروسية
الشاملة في أوكرانيا، ومن المتوقع أن يتم التعبير عن ذلك في قمة حلف شمال الأطلسي
(الناتو)، بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيسه، التي ستُعقد في واشنطن في
الفترة من 9 – 11 يوليو الجاري.
2- تطوير علاقات بريطانيا مع الاتحاد: تعهد
حزب العمال أيضاً بـبذل المزيد من الجهود من أجل إنجاح خروج بريطانيا من الاتحاد
الأوروبي، والسعي إلى اتفاق أمني جيد مع الاتحاد، بما يؤدى لإصلاح الإخفاقات التي
مني بها حزب المحافظين أثناء وجوده في سدة الحكم في بريطانيا. وفي السياق ذاته،
نوه رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر إلى إمكانية الاستغناء تدريجياً عن
الصين في قضايا مثل التجارة والتكنولوجيا، مع الاعتراف بأهمية القدرة على التعاون
في قضايا مثل معالجة تغير المناخ.
ونوه ستارمر إلى أن التحدي الأهم بالنسبة له يتمثل في تحقيق
التوازن بين المصالح التجارية والاقتصادية للمملكة المتحدة والضرورات الأمنية.
ولكن قد يتعقد الأمر بسبب العودة المحتملة لدونالد ترمب إلى واشنطن بعد الانتخابات
الرئاسية الأمريكية التي من المقرر أن تنعقد في نوفمبر 2024 ومن المتوقع أن يزيد
ترمب الضغوط على الحلفاء، ليكونوا أكثر صرامة مع بكين. وتعهد ستارمر بالعمل مع حزب
"التجمع الوطني" اليميني المتطرف في فرنسا إذا وصل إلى السلطة.
3- تبنى سياسة خارجية مهادنة نحو الشرق
الأوسط: من المتوقع أن يتبنى حزب العمال البريطاني سياسية
خارجية نشطة ومحفزة على المزيد من الاستقرار
تجاه قضايا الشرق الأوسط وفي القلب منها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ حيث
تعهد رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر التزام حزبه بالاعتراف بالدولة الفلسطينية
كمساهمة في عملية السلام المتجددة التي تؤدي إلى حل الدولتين.
ورغم أن كير ستارمر لم يحدد أي
جدول زمني للقيام بذلك، إلا إنه تحدث عن أن التزاماته الأخرى ستشمل الضغط من أجل
وقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق سراح جميع الرهائن، وزيادة كمية المساعدات التي تصل
إلى غزة.
4- مواصلة دعم أوكرانيا: بالنظر
إلى أن لندن تعد من أشد المؤيدين وقدمت المال والأسلحة وتدريب القوات، لمساعدتها في
مواجهة روسيا، أكد حزب العمال استمرار دعمه لأوكرانيا حال فوزه، ومن المتوقع أن
يلتقي ستارمر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سريعاً، لتأكيد هذه الرسالة
شخصياً.
وأشار ستارمر إلى إن الاجتماع مع
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس مطروحاً في الوقت الحالي، ووصفه بأنه المعتدي في
أوكرانيا. وشدد على أن الأمر الأكثر أهمية هو الوضوح التام، لجهة دعم أوكرانيا.
وفي النهاية: يمكن القول أن هناك مجموعة
من التحديات العامة التي تواجه حزب العمال في الحكومة البريطانية الجديدة، ويأتي على
رأسها التحديات الاقتصادية، والتي تعد من أبرز العقبات التي يتعين على الحزب
مواجهتها؛ حيث أن الاقتصاد البريطاني يعاني من تبعات الخروج من الاتحاد الأوروبي
ثم آثار جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا. وتتطلب هذه التحديات من الحزب وضع
سياسات اقتصادية فعالة تركز على تحفيز النمو وخفض الدين العام وزيادة فرص العمل.