محفزات التقارب: اتجاهات الوصول إلى تسوية الأزمة السودانية
بعد مرور 16 شهرًا مرت على اندلاع
الحرب في السودان بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات
الدعم السريع لا تزال مفاوضات التوصل إلى وقف إطلاق نار تراوح مكانها؛ إذ لم تفلح
مساعي التهدئة التي أطلقتها عدة دول في وقف نزيف الصراع الذي خلف عشرات آلاف
القتلى. وفيما يتقاذف طرفا النزاع التهم والمسئولية بشأن عرقلة مسار محادثات
السلام، تستمر الأزمة الإنسانية في التفاقم، وفق الأمم المتحدة التي تندد بعوائق
تحول دون إتمام العمل الإنساني.
وفي إطار مواجهة هذه التداعيات استضافت
سويسرا محادثات جنيف بشأن السودان والتي تهدف إلى إعادة فتح 3 طرق لتوسيع نطاق
إيصال المساعدات الإنسانية، وذلك بعدما اندلعت المعارك في السودان منتصف أبريل
2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، ودفع النزاع البلاد إلى حافة المجاعة، وهو ما
نددت به المنظمات الإنسانية بسبب انعدام الأمن الذي يمنعها من إيصال المساعدات؛
حيث أوقع النزاع عشرات آلاف القتلى وأدى إلى أزمة إنسانية كبرى، وفق الأمم
المتحدة، وأجبرت المعارك 20% من السكان على النزوح. كما يواجه
نحو 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف عدد سكان السودان، "انعدام الأمن الغذائي
الحاد"، وفق ما أفاد تقرير مدعوم من الأمم المتحدة في يونيو الماضي. في حين أعلنت الأمم المتحدة تفشي المجاعة في مخيم زمزم للنازحين،
القريب من مدينة الفاشر المحاصرة في دارفور. وكان إغلاق معبر أدري قد أثار قلق
منظمات الإغاثة التي تواجه صعوبات في إيصال الأغذية والإمدادات إلى منطقة دارفور
في السودان.
اتجاهات التفاهم
وصلت الأوضاع في السودان إلى مرحلة
حرجة وفقًا لتعبير المدير الإقليمي للمنظمة الدولية للهجرة عثمان البلبيسي وذلك
بعد اشتعال الحرب الأهلية في البلاد، ولمعالجة هذه التداعيات السلبية انعقدت
مفاوضات برعاية الولايات المتحدة والسعودية؛ حيث أرسلت قوات الدعم السريع وفدًا
للتفاوض، فيما غاب الجيش السوداني إلا أن ذلك لم يقف حائلًا أمام استمرار المفاوضات.
ومن جنيف، توالت نداءات المبعوث الخاص
الأمريكي توم بيرييلو للجيش السوداني بالحضور، ومن السودان، عرض السفير النرويجي
أندريه استيانس رغبة بلاده في الوساطة بين حكومة عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس
السيادة وقائد الجيش السوداني من ناحية والولايات المتحدة من ناحية أخرى لتقريب
وجهات النظر حول اجتماعات جنيف. ومع ذلك يصر الجيش على موقفه الرافض لوجود قوات
الدعم السريع.
وجاءت هذه المباحثات لمناقشة إجراءات
بناء الثقة التي تم التوصل اليها في جنيف كبداية محتملة للخروج من الأزمة في
السودان، والبحث عن أفق وقف أعمال العنف والجلوس إلى طاولة حوار أممية شاملة.
وبالتوازي مع هذا المسار استضافت القاهرة مشاورات بين وفد من الحكومة السودانية
والمبعوث الأميركي إلى السودان، توم بيرييلو للبحث في تنفيذ مخرجات اتفاق جدة لوقف
الحرب في السودان، في وقت أعلنت فيه واشنطن مواصلة المفاوضات في جنيف للوصول إلى
التزامات من طرفي الحرب تنهي الأزمة، وبعد اتصالات مكثفة من الوسطاء مع قائد الجيش
رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قررت الحكومة
السودانية، التي تتخذ من بورتسودان مقرًا لها، إرسال وفد إلى القاهرة للقاء وفد من
الإدارة الأميركية «لمناقشة إنفاذ اتفاق جدة والتي ركزت على تعزيز وصول المساعدات
الإنسانية وحماية المدنيين في السودان، وضمان الامتثال للالتزامات الواردة في
إعلان جدة، فضلًا عن وقف الأعمال العدائية في السودان.
وقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي،
أنتوني بلينكن، عن توصل الولايات المتحدة إلى اتفاق مع الجيش السوداني وقوات الدعم
السريع لفتح نقاط عبور حيوية لتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى السودان. وجاء هذا
الإعلان ضمن جهود أمريكية مستمرة لوقف الأعمال العدائية في البلاد؛ حيث أشار
بلينكن إلى أن المباحثات الجارية في سويسرا تهدف إلى تحقيق نتائج أفضل للوضع في
السودان. ورغم التركيز الأمريكي الحالي على أزمة غزة، إلا
أن بلينكن أكد على أهمية التعامل مع الكارثة الإنسانية المتفاقمة في السودان. وفي الإطار
ذاته، أعلنت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية في السودان "تقدم"،
ترحيبها بموافقة طرفي الحرب الدائرة منذ أكثر من 16 شهرًا في البلاد على فتح
المعابر الحيوية لإيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين.
جهود أمريكية وعقبات ميدانية
في نهاية يوليو 2024، دعت الإدارة
الأميركية طرفي الصراع في السودان إلى جولة جديدة من المفاوضات في جنيف لوضع حد
للحرب المستمرة منذ 15 أبريل 2023، وتمثل دعوة الولايات المتحدة إشارة إيجابية في
اتجاه الوصول إلى تفاهمات مشتركة بين الأطراف المتصارعة لكنها ليست كافية. اعتبارًا
لتعقيد الوضع؛ حيث لم تنجح حتى الآن أي من المبادرات الرامية إلى جمع الأطراف
الرئيسة حول طاولة واحدة. في المقابل، فإن هذا الأمر لن يصعب من إمكانية بلوغ
اتفاق ينهي الصراع الدامي؛ إذ إن هدف المحادثات ليس حل الصراع السياسي، ولكن
التوصل إلى خطة لوقف إطلاق النار وتحسين إمكانية وصول المساعدات الإنسانية.
وضمن هذا السياق، تحاول واشنطن استخدام
استراتيجية مفادها إحداث زخم وإحراز تقدم على عدد من الأصعدة في المفاوضات، سواء
كان التوصل لهدنة أو تيسير وصول المساعدات أو بشأن تحديد مسار المستقبل السياسي
للسودان، ثم التلويح بهذا الزخم كتهديد للبرهان الذي قاطع المفاوضات أنه لن يستطيع
المشاركة في اتخاذ قرارات متعلقة بمستقبل الأزمة. في المقابل، انتهزت قوات الدعم
السريع من جانبها غياب قوات الجيش النظامي عن المفاوضات لتتهمها بالرغبة في
استمرار معاناة البلاد.
من ناحية أخرى، تستند المفاوضات التي
دعت إليها الولايات المتحدة الأميركية، وبمشاركة أطراف دولية وإقليمية، على
إمكانية تقديم فرص لحل الأزمة السودانية، وأعادت ذلك إلى قدرة الوسطاء المشاركين
في تلك المشاورات على ممارسة ضغوط على طرفي الحرب لتحريك مسارات الحل. وقد تتجه الولايات
المتحدة الأميركية، التي فرضت نفسها وسيطا لحل الأزمة السودانية، إلى فرض عقوبات
على الحكومة السودانية لعدم استجابتها للدعوة التي قدمتها لرئيس مجلس السيادة
وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان للتفاوض في جنيف. إلا أن وزير
الخارجية السوداني حسين عوض أعلن أنه لم يتم رفض دعوة واشنطن لبحث الوصول لوقف
إطلاق نار وحماية المدنيين وإيصال المساعدات بشكل مطلق. وأكد أنهم رحبوا -في ردهم
على الدعوة- بأي جهد يصب في هذا الاتجاه، على أن يكون في إطار إعلان جدة، وألّا
يتراجعوا عما تحقق فيه أو يتم استنساخه بإنشاء منبر جديد.
ويمكن الإشارة هنا إلى أنه من بين أبرز
نقاط الخلاف المرتبطة بالمفاوضات، تحفظ الحكومة السودانية على دعوة واشنطن لإجراء
محادثات في جنيف، وعن اختلافها معها بشأن طبيعة المشاركين. وكان البرهان سبق وأعلن
أن العمليات العسكرية لن تتوقف إلا بانسحاب آخر عناصر الميليشيات من المدن والقرى
التي نهبوها واستعمروها. في المقابل، نفت قوات الدعم السريع الاتهامات بالنهب
والعنف ضد المدنيين.
من جانبها، رحبت مجموعات سياسية ومدنية
سودانية برفض الحكومة المشاركة في محادثات جنيف مع قوات الدعم السريع حتى يتم
تنفيذ اتفاق جدة. وفي بيان مشترك صدر بعد اجتماع في بورتسودان عقب الأسبوع الماضي،
جدد 12 تحالفًا وحزبًا سياسيًا، بما في ذلك الكتلة الديمقراطية، وقوى الحركة
الوطنية، وفصيل من حزب المؤتمر الشعبي، والطرق الصوفية، وبعض لجان المقاومة، تأكيد
دعمها للجيش. وأكد المشاركون على ضرورة تنفيذ إعلان جدة
الموقع في مايو 2023، واستنكروا نقل المفاوضات من جدة إلى جنيف، ورفضوا أي محاولات
لإعادة دمج قوات الدعم السريع في الحياة السياسية، وأشادوا بموقف الحكومة والدعم
الإنساني من بعض الدول العربية.
في الختام: جاءت التحركات الدبلوماسية
الأمريكية في سياق محاولات دولية لإنهاء النزاع وتخفيف الأزمة الإنسانية التي
تفاقمت بفعل استمرار القتال وعدم الالتزام بالهدنات السابقة؛ حيث توصلت المباحثات
إلى دخول المساعدات إلى المناطق المنكوبة في السودان وهو الهدف الرئيسي المعلن
منها، وعلى الرغم من اعتراض الجيش السوداني على السماح بتمثيل الدعم السريع في
المباحثات، إلا أن هذا لا يقف حائلًا أمام تحقيق تقدم وخطوات عملية في ضمان نفاذ
المساعدات والتي قد تكون قاعدة للانطلاق نحو التسوية الشاملة للأزمة السودانية.