رؤية واقعية....كيف يمكن أن تؤثر عودة ترامب على مكانة الولايات المتحدة العالمية؟
كشفت بعض التقديرات الغربية عن إنه إذا
عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخرى فسوف يلحق ضرر كبير
طويل الأمد بمكانة الولايات المتحدة الأمريكية العالمية. ويرجع ذلك إلى أن ترامب
ونائبه الأول جيه دي فانس يعملان بشكل أحادي وفق صورة عفا عليها الزمن لمكانة أمريكا
في العالم وقدرتها على تحقيق أهدافها الخاصة. فهم يرفضون نزعة المحافظين الجدد، ويعتقدون
أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على
أن تفعل ما تشاء، وأن الدول الأخرى سوف تخضع ببساطة لإرادتها. ولكن الجدير بالذكر،
أن وجهة النظر هذه لم تكن صحيحة خلال حقبة "الأحادية القطبية" (بعد
الحرب الباردة)، ولاسيما الآن بعد أن أصبحت الصين نظيراً اقتصادياً.
ورغم كل الجدل المحيط بالمرشحة
الديمقراطية الجديدة لمنصب الرئيس كامالا هاريس، فإن التوقعات الانتخابية لا تزال
تشير إلى أن فرصة فوز الحزب الجمهوري في نوفمبر تزيد على 50%. ونظراً للمخاطر التي
يعنيها ذلك سيكون من غير المسؤول عدم إلقاء نظرة فاحصة على ما يعنيه أن يقود
الرئيس السابق دونالد ترامب السياسة الخارجية للولايات المتحدة مرة أخرى.
أولاً: العودة لنهج الأحادية
يتعين على زعماء الولايات المتحدة في
عالم اليوم، أن يفكروا بعناية في الكيفية التي تتفاعل بها الدول الأخرى مع تصرفاتهم
بدلاً من افتراض أنهم قادرون على تحقيق النجاح من خلال التصرف من جانب واحد. وفي
هذا السياق، كانت نهج ترامب الأحادي واضحاً منذ فترة طويلة، ولا يوجد دليل على أنه
غير وجهات نظره. وخلال فترة ولايته الأولى، أبدى قدراً ضئيلاً من الاهتمام
بالدبلوماسية الحقيقية، وكان نهجه في التعامل مع السياسة الخارجية كارثياً.
كان يزعم ترامب إنه أنه هو الوحيد
المهم، أهدر فرصاً رئيسية في مجال السياسة الخارجية لعدة أشهر وقام بتعيين ليس
وزيراً واحداً بل وزيرين للخارجية غير فعالين. واعتقد أنه قادر على إقناع الزعيم
الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالتخلي عن ترسانته النووية ولكن دون جدوى، واعتقد
أنه يستطيع فرض تعريفات جمركية على الصين دون دفع بكين إلى الانتقام. وكان الرجل
الذي نصب نفسه "صانع الصفقات الرئيسي" ميالاً أيضاً إلى تقديم التنازلات
دون الحصول على أي شيء في المقابل (وهو النهج الذي وصفه كاتب العمود في صحيفة
نيويورك تايمز توماس فريدمان على نحو مناسب بأنه "فن العطاء")، وانسحب من
الصفقات التي كان يمكن أن تعود بالنفع على
واشنطن، مثل الاتفاق النووي مع إيران أو
اتفاق باريس للمناخ.
ومن المرجح أن تتفاقم هذه الاتجاهات في
الفترة الثانية من رئاسته. ولعل مشروع مؤسسة التراث 2025، والذي ربما يكون أفضل
دليل لأجندة ترامب، يحدد سلسلة من التدابير المصممة لإضعاف وزارة الخارجية (مثل
دعوة جميع سفراء الولايات المتحدة إلى تقديم استقالاتهم بحلول العشرين من يناير
2025). وفي المقام الأول من الأهمية، يدعو المشروع إلى انتهاج سياسة خارجية تقوم
على إصدار إنذارات نهائية للحلفاء والخصوم على حد سواء، مع توقع التزامهم بسرعة
بكل ما تريده واشنطن. وهذه ليست دبلوماسية ولا استراتيجية للحد من الخسائر وتعزيز
المكاسب، بل أن نهج "قبول الأمر أو
رفضه" في التعامل مع بقية العالم هو الذي كان يشكل عائقاً أمام السياسة
الخارجية الأمريكية لسنوات عديدة.
ثانياً: الصدام مع الصين
من المرجح أن يكون تعامل ترامب مع
السياسة الاقتصادية الخارجية غير مناسب بشكل خاص. ورغم أن حربه التجارية في ولايته
الأولى مع الصين كلفت واشنطن أكثر مما
استفادت منه وفشلت في تحقيق أهدافها، فإن ترامب يريد مضاعفة هذا النهج إذا عاد إلى
السلطة. لكنه يريد هذه المرة فرض رسوم جمركية على جميع الدول، وليس الصين فقط.
وتُظهِر النظرية الاقتصادية الصحيحة والخبرة التاريخية أن سياسات الحماية الواسعة
النطاق تجعل البلدان أكثر فقراً وليس أكثر ثراءً. ومع ذلك، فإن هذا هو بالضبط ما ينوى ترامب فعله.
إن تقييد التجارة أمر منطقي في ظروف
معينة (على سبيل المثال، لحماية التقنيات التي لها آثار على الأمن القومي)، ولكن
بشكل عام، فإن الاقتصاد العالمي المفتوح يفيد الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة
عندما يقترن ببرامج التكيف الداخلي التي يعارضها الجمهوريون. ولكن عادة إن البلدان التي تعتقد أنها قادرة على
التفوق في مجالات الإبداع وتشغيل العمالة والمنافسة حريصة على خفض الحواجز
التجارية؛ بينما الدول التي تخاف من المنافسة تشعر بالحاجة إلى منع دخول بضائع
الآخرين. ومن خلال الدعوة إلى فرض تعريفات جمركية ضخمة، يقول ترامب وفانس والحزب
الجمهوري للعمال الأمريكيين وقادة الشركات إنهم لا يثقون في قدرة البلاد على
المنافسة على المسرح العالمي.
وبطبيعة الحال، سوف تنتقم الدول الأخرى
حتما إذا مضى ترامب قدما في هذه الخطة، وهذا من شأنه أن يلحق الضرر بالمصدرين الأمريكيين
ويزيد من تقليص النمو الاقتصادي العالمي. سوف يدفع الأمريكيين المزيد مقابل الاستهلاك،
وقد يؤدي هذا إلى إعادة إشعال تضخم ما بعد كوفيد 19 الذي نجحت إدارة بايدن في
السيطرة عليه. وبالتالي إذا قاد ترامب البلاد إلى هذا المسار، فسوف تكون الولايات المتحدة الأمريكية أضعف في المستقبل
وسيكون لدى معظم الأمريكيين مستوى معيشة أقل.
ثالثاً: مأزق الشرق الأوسط
كانت ولا تزال سياسة بايدن في الشرق
الأوسط كارثية، لكن سياسات ترامب في ولايته الأولى كانت في الأساس نفس سياسات
بايدن وغير فعالة بنفس القدر. ومثل بايدن، منح ترامب لإسرائيل كل ما تريده، معتقداً
أنه يمكن تجاهل القضية الفلسطينية دون ضرر، وتخلى ترامب عن الاتفاق النووي مع
إيران الذي نجح في كبح البرنامج النووي الإيراني وبدلاً من ذلك مارس أقصى قدر من
الضغط على طهران، مما زاد من التوترات الإقليمية وسمح لإيران بالاقتراب من قنبلة
نووية.
لكن من المثير للانتباه أن فانس ادعى
أن بايدن لم يفعل شيئاً لمساعدة إسرائيل (على ما يبدو كان غير مدرك لمليارات
الدولارات من المساعدات العسكرية التي تم تقديمها منذ 7 أكتوبر 2023!) ويعتقد أنه
كان ينبغي للحكومة أن تفعل أكثر من ذلك الدعم للحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل
على غزة. باختصار، فإن فانس راضٍ تماماً عن دعم الإبادة الجماعية، بغض النظر عن
مدى الإضرار بصورة أمريكا أو إسرائيل في أعين الآخرين. لقد كانت سياسة الولايات
المتحدة في الشرق الأوسط فاشلة من جانب الحزبين الجمهوري والديمقراطي لعقود من
الزمن، ولن تتحسن مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
وفي النهاية: يمكن
القول إنه لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بمزايا هائلة مقارنة بالدول
الأخرى، على الرغم من أن الإدارات الجمهورية والديمقراطية فعلت الكثير لتبديد هذه
المزايا في العقود الأخيرة. ونظراً لاستعداد ترامب الواضح لتدمير العديد من
المؤسسات التي ساعدت الولايات المتحدة على تحقيق مكانتها العالمية المنشودة، فإن
منحه فرصة ثانية للرئاسة سيكون مؤامرة متهورة للغاية.