محفزات التغيير: تعديل الدستور التركي ومستقبل النظام التركي
تصاعدت الدعوات الداخلية في تركيا
لإعادة كتابة الدستور، خاصة أن دستور 1982 ليس دستورًا ديمقراطيًا، بل هو دستور
بيروقراطي طرحه منهج الوصاية، وخلال السنوات الماضية تم تعديل هذا الدستور 21 مرة،
إلا أن هناك العديد من القضايا ما زال فيها اختلالات، وهو ما يستلزم وضع دستور
جديد. ويمكن الإشارة هنا إلى أن أغلب الأحزاب تتوافق من حيث المبدأ على التغيير
الدستوري، لكنها تختلف فيما بينها في التفاصيل والصيغ.
كما أنه منذ وصول حزب العدالة والتنمية
لسدة الحكم، ظل قادته يؤكدون ضرورة تغيير الدستور العسكري لعام 1982، والعمل على
تعديلات جذرية فيه. والتزم الرئيس أردوغان بهذا المسار أكثر من مرة،
قبل فترة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، وحتى خلال التحضيرات
الخاصة بالانتخابات المحلية الأخيرة، التي تم تنظيمها في مارس 2024.
وفي ضوء ذلك، من المحتمل أن تتجه تركيا
لتغيير دستوري سيتم نقاشه في البرلمان خلال الأشهر المقبلة، ما من شأنه أن يُسفر
عن انتخابات مبكرة، وسط تكهنات بشأن أنه في حال أجريت هذه الانتخابات بعد عام 2026
سيكون للرئيس الحالي رجب طيب أردوغان فرصة للترشح من جديد، كون الدستور التركي
الجديد يَجُبُّ ما قبله، أما حال فشله في تمريره، فقد تكون الولاية الحالية
الأخيرة له.
ويسعى حزب العدالة والتنمية إلى زيادة
شعبيته من خلال النجاح في مثل هذه الخطوة التاريخية، بعد أن تعرض لخسارة فادحة في
الانتخابات البلدية التي جرت في مارس 2024، كما أنه سبق وأجريت تعديلات عدة على
الدستور الحالي في فترات زمنية، أبرزها في عامي 2007 و2010، وصولًا إلى الاستفتاء
الكبير على تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي عام 2017.
نصوص فوق دستورية
يتطلب إقرار تغيير الدستور أو تمرير
تعديلات دستورية في البرلمان من دون الذهاب إلى استفتاء أغلبية 400 صوت، بينما
يتطلب تحقيق الأغلبية اللازمة من أجل الطرح للاستفتاء الشعبي 360 صوتًا، وهو أمر
يظل صعبًا، ولاسيما وأنه حتى التحالف الحاكم لا يملك تلك الأغلبية في البرلمان؛ إذ
يمتلك حزب أردوغان 265 مقعدًا، وحليفه حزب الحركة القومية 50 مقعدًا، في حين يمتلك
حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي 126 مقعدًا، لذلك يحتاج أردوغان إلى نحو 45
صوتًا من الأحزاب المعارضة من أجل تمرير الدستور من البرلمان وطرحه للاستفتاء
الشعبي، أو إلى 85 صوتًا من أجل اعتماد الدستور الموضوع ودخوله في حيز التنفيذ،
وذلك بعد خسارته لمقاعد حزب الرفاه البالغة 5 مقاعد، ومقاعد حزب هدى بار البالغة 4
مقاعد، فضلًا عن أن المواد الأربع الأولى من الدستور الحالي، التي يرى البعض بأنها
مواد مقدسة، قد تحول دون تغيير الدستور بأكمله.
وعليه، يبقى الاحتمال العملي الأبرز
-إن لم يكن الوحيد- هو توافق العدالة والتنمية مع الأحزاب المستجدة -الصغيرة- في
البرلمان، وهي أحزاب الديمقراطية والتقدم والمستقبل والسعادة. ودخلت هذه الأحزاب
البرلمان على قوائم الشعب الجمهوري، وعلى الرغم من أنها كانت جزءً من الطاولة
السداسية المعارضة، ولكنها أقرب أيديولوجيًا وفكريًا للعدالة والتنمية.
وسيطرح الدستور التركي كاملًا للنقاش،
بحسب التعديلات المقترحة باستثناء المواد الأربعة الأولى من الدستور القديم، والتي
تتضمن شكل الدولة وتنص على أن تركيا دولة جمهورية، ومادة خصائص الجمهورية والتي
تنص على أن جمهورية تركيا دولة قانون ديمقراطية علمانية واجتماعية تقوم على
المبادئ الأساسية المنصوص عليها فيما يخص سلام المجتمع والتضامن الوطني ومفهوم
العدالة، وتحترم حقوق الإنسان ومخلصة لقومية أتاتورك.
كذلك ستستثني التعديلات المادة الثالثة
وحدة الدولة ولغتها الرسمية وعلمها ونشيدها الوطني وعاصمتها وتنص على دولة تركيا
بشعبها وأرضها وحدةٌ لا تتجزأ، لغتها هي التركية، وشكل علمها محدد في القانون وهو
علم أحمر بهلال أبيض ونجمة، نشيدها الوطني هو (نشيد الاستقلال)، وعاصمتها أنقرة. بينما
تشير المادة الرابعة غير الخاضعة للتعديلات المنتظرة بأحكام لا يمكن تغييرها وتنص
على أن الأحكام الواردة في المادة 1 من الدستور التي تنص على الشكل الجمهوري
للدولة، والمادة 2 التي تشرح خصائص الجمهورية بالإضافة إلى المادة 3، هي أحكام لا يمكن
تعديلها ولا يمكن اقتراح تغييرها.
تباين الاتجاهات
ورغم توافق الحزب الحاكم والمعارضة على
تغيير الدستور، إلا أنه مُنتظر أن يشتد الخلاف بينهما حول ملفات فحوى الدستور
القادم، منها: هوية الدولة، تعريف المواطنة، المرجعية الإسلامية، الحجاب، الأكراد،
صلاحيات الرئيس، طبيعة نظام الحكم ما بين رئاسي وبرلماني.
وعلى مدى الأعوام الماضية، دائمًا ما
كانت المعارضة مترددة، وفي بعض الأحيان، معادية بشكل صريح لمحاولات وضع دستور
جديد. وكانت الأسباب في معظمها سياسية خاصة أن هناك تباين في الآراء فيما يتعلق
بمواقف الأحزاب السياسية من صياغة دستور جديد للبلاد، فحزب الجيد الليبرالي القومي
المعارض في تركيا، فيشترط لموافقته على تغيير الدستور، العودة من النظام الرئاسي
الذي أقره استفتاء 2017 إلى النظام البرلماني القديم. كما أن حزب الشعب الجمهوري والأحزاب
الأخرى متفقة على ضرورة تضمين حرية اللباس والمعتقد في الدستور، إلا أن هناك خلافًا
بشأن صيغة الجملة المتعلقة بالحجاب إضافة إلى بنود أخرى تتعلق بحقوق المرأة
والإنسان، التي من المفترض أن تقرّها تركيا بموجب الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ويمكن الإشارة إلى أنه قبل الانتخابات
الأخيرة، وعدت المعارضة بإعادة البلاد إلى النظام البرلماني وصياغة دستور جديد بعد
الفوز بأغلبية البرلمان. في المقابل، تحدث الحزب الحاكم عن وجود بعض الثغرات
والمواد التي تحتاج تعديلا بعد خبرة تطبيق النظام الرئاسي. وخسرت المعارضة
الانتخابات الرئاسية ولم تنجح في الحصول على أغلبية البرلمان، ما ترك مسئولية
صياغة دستور جديد على كاهل العدالة والتنمية وتحالف الجمهور في المقام الأول.
كما أن العدالة والتنمية وحليفه القومي
كان بإمكانهما تغيير الدستور في الماضي، لكنهما لم يفعلًا ذلك لأنه كان يعطيهما
حقوقًا واسعة ليسا بصدد الاستغناء عنها، إلا أنه بعد انتخابات البلدية اتضح أن
هناك تصاعدًا لأصوات حزب الشعب الجمهوري والأحزاب المعارضة. بالإضافة إلى ذلك، فإن
التعديلات الدستورية السابقة التي أشرفت عليها الحكومة لم تكن على القدر المأمول،
فيما يتعلق بحقوق المرأة، وحرية المعتقد، والاختلافات العرقية والدينية، في حين قد
تتعلق التعديلات الجديدة التي يهدف إليها حزب العدالة والتنمية بترسيخ نظام الحكم
الرئاسي الذي يجمع الصلاحيات في يد واحدة، وفرض الأمر الواقع على المعارضة للقبول
به. وقد يكون أردوغان يخطط لإضافة فقرة تسمح له
بالبقاء في الرئاسة لأكثر من فترتين خاصة أن خطوات الرئيس دائما ما تهدف لتعزيز
موقعه.
ومن جهة أخرى، قد يتجه أردوغان يسعى
لإعادة تعريف المواطنة للتفريق بين الانتماء العرقي والوطن، والذي هو السبب
الأساسي في الخلاف بين الأتراك والأكراد. كما قد يتم الاعتراف باللغة الكردية كلغة ثانية. بجانب ذلك، يريد
أن يجعل حق ارتداء الحجاب نصًا دستوريًا، وأن تكون المراجع الإسلامية واحدة من
مصادر صياغة القوانين الأساسية. أما المعارضة، فترفض نقاش المساس بعلمانية
الدولة. كما أن لمعارضة ترى أن تعريف المواطن هو
الانتماء للوطن؛ حيث أن شخصا يحمل الجواز التركي فهو مواطن بغض النظر عن عرقه. كما وجهت لمعارضة اتهامات لأردوغان بأنه سيحاول في الدستور الجديد دعم
النظام الرئاسي، وتكريس سياسة الرجل الأوحد بتوسيع صلاحياته. ومن المرجح أن يسهم
تصاعد قوة المعارضة التركية وحزبها الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، في تعزيز التوافق
على دستور جديد للبلاد، فتلك القوة قد تمكنها من تحقيق مكاسب أكبر في المفاوضات
الدستورية.
في الختام: على الرغم من أن أغلب القوى
السياسية والحزبية في تركيا ترغب في تغيير الدستور، فإنها تختلف جميعها حول ما
سيتضمنه الدستور الجديد من مواد، ولاسيما وأن مطالبها ستكون مختلفة في أمور كثيرة،
كما أن القوى المعارضة التركية ترى أن تحركات أردوغان بشأن النقاشات معها ما هي
إلا مناورة سياسية لتمرير الدستور الجديد وفق تفضيلات حزب العدالة والتنمية، إلا
أن ذلك لا ينفي احتمالية بحث كل من الحكومة والمعارضة عن فرص لإرباك وإضعاف الطرف
الآخر ومحاصرته بكافة الأوراق التي يملكها لمحاولة الحصول على المكاسب السياسية.