اتفق تماماً مع كل ما يكتب ويقال عن ضرورة أن يبادر رئيس مصر القادم بصياغة أجندة أولويات المهام مرتبة حسب درجة أهميتها وخطورتها ومدى ارتباطها بالزمن، أى خطورة الإرجاء والتأخير، وعلاقتها بعامل الزمن.
واتفق أيضاً مع كل ما يكتب وما يقال بأن «القضية الأمنية» هى القضية «المفتاح» التى دون النجاح فيها يمكن أن نخسر كل شىء ويمكن أن نفشل فى إنجاز أى شىء، لا عدالة اجتماعية ولا ديمقراطية، لسبب رئيسى هو أن الدولة المصرية، ربما للمرة الأولى فى تاريخها، ولأسباب كثيرة بعضها داخلى وكثير منها خارجي، معرضة لخطر التفكيك والسقوط، لكننى اختلف مع كل ما يروج حول أن الرئيس القادم سيكون قادراً بشخصه، أو بما لديه من أدوات الدولة المتبقية، خاصة الجيش والشرطة والمخابرات، على إنجاز مهمة استعادة الأمن والاستقرار للبلاد، فى ظل بقاء كل أسباب التداعى والانفراط والفشل المتمكنة فى كل أجهزة الدولة على ما هى عليه، وفى ظل غياب الدور الشعبى عن تحمل الجزء الأكبر فى هذه المهمة.
أستطيع أن أقول، بضمير وطنى مستريح تماماً، إن الرئيس القادم لن يكون فى مقدوره أن يقول للشىء كن فيكون. فالله سبحانه وتعالى وحده هو من يستطيع فعل ذلك ولا يشاركه فيه مخلوق، والرئيس القادم لن يكون ساحراً، وحتى لو كان ساحراً، بل كان ساحراً ماهراً، فإن القضية التى نحن بصددها، قضية استعادة الدولة من السقوط والتداعى تفوق قدرة أى ساحر، لكن الرئيس يستطيع أن يؤدى بنجاح دوره فى هذه المهمة عبر إجراءين متلازمين لا يمكن، بأى حال من الأحوال، الفصل بينهما أولهما: أن يبادر بإسقاط الدولة التسلطية المشخصنة وأن يرسى فوراً دولة الحق والقانون والعدالة، دولة «العدل والحرية». وثانيهما: أن يؤسس لنخبة حاكمة جديدة من «خارج الصندوق» الفاسد، الذى ظل يمد الحاكم المستبد الفاسد بمن هم أهل الثقة فى الحفاظ على نظامه. خروج الرئيس الجديد من هذا الصندوق ونجاحه فى أن يقدم للشعب نخبة جديدة من الوطنيين الأكفاء فى مجالاتهم المختلفة، من الذين تصدوا، وبقوة لحكم الفساد والاستبداد، وانحازوا للشعب، ودفعوا أثماناً باهظة لهذا الانحياز من اضطهاد وتهميش وتشويه، هو ما سوف يستعيد الثقة بين الشعب والدولة، الثقة التى دونها، لن يكون الشعب شريكاً ومبادراً فى القيام بدوره للتصدى لكل خطر يتهدد بقاء مصر دولة موحدة متماسكة قادرة على أن تعود قوية وقادرة على أن تفرض نفسها مجدداً شريكاً قوياً ليس فقط على المستويين العربى والإقليمى بل أيضاً على المستوى الدولي.
لقد عاشت مصر، وعلى مدى الأربعين سنة الماضية، ما يمكن اعتباره تزاوجاً بين نظامى «الدولة التسلطية» و«الدولة المشخصنة». كانت البداية هى الدولة التسلطية، وتطورت فى السنوات العشرين الأخيرة من حكم مبارك إلى الدولة المشخصنة التى جعلت مصر دولة تستقوى على شعبها، ولكنها دولة منبطحة وهشة ورخوة فى علاقاتها مع الخارج لدرجة أنها تحولت بفعل ذلك إلى دولة عاجزة قابلة للانشطار والسقوط أمام أى ضغوط أو تحرك قوى فى الداخل أو من الخارج.
والدولة التسلطية التى نعنيها هى الشكل الحديث والمعاصر للدولة المستبدة التى تسعى إلى تحقيق «الاحتكار الفَّعال» لمصادر القوة والسلطة فى المجتمع لمصلحة الدولة أو النخبة الحاكمة. والدولة التسلطية، خلافاً لكل أنواع الدول المستبدة، تحقق هذا الاحتكار عن طريق اختزال مؤسسات الدولة ومقدراتها الإنتاجية لتكون خاضعة لهيمنة السلطة الحاكمة، بحيث تحقق احتكار الثروة، عبر سلسلة متصلة من قنوات وآليات الفساد بعد نجاحها فى احتكار السلطة، فقد عاشت مصر منذ منتصف عقد السبعينيات ومع بداية الضغوط الأمريكية لبيع القطاع العام وخصخصة الاقتصاد المصرى كشرط للحصول على «المعونة»، مرحلة شديدة الخطورة أدت إلى تحول الثروة الوطنية عبر الفساد وقوانينه إلى ثروة السلطة الحاكمة ومؤسساتها، ودخلت مصر فى جدلية جهنمية بين المزيد من احتكار السلطة الذى يقود نحو المزيد من احتكار الثروة، والمزيد من احتكار الثروة الذى يؤدى إلى المزيد من احتكار السلطة وهى المعادلة نفسها التى ربطت بين الاستبداد والفساد فى تفاعل جهنمى بين الاستبداد والفساد بمعدلات متصاعدة، وكانت النتيجة هى ظهور «الدولة التسلطية المشخصنة». وهى دولة الحكم المطلق الذى يتجاوز فى خطورته، كل مخاطر ومساوئ الحكم المستبد أو دولة الاستبداد.
فالدولة المستبدة والمفرطة فى اعتمادها على أجهزة الأمن والقهر المادى والمعنوى والمحتكرة للسلطة والثروة تعبر، فى معظم الأحوال، عن حكم جماعة مهما كانت هذه الجماعة ضيقة قبيلة، أو حزبا سياسيا، أو طبقة سياسية، وفى كل من هذه الأنماط للدولة المستبدة يشعر الحاكم بأنه ينتمى إلى تكوين اجتماعى محدد ذى وجود مستقل عن الدولة. أما «الدولة المشخصنة» فإن القائم عليها لا تربطه عائلة أو قبيلة أو حزب سياسى أو طبقة سياسية أو اجتماعية أو حتى جماعة دينية، فهو يسيطر بذاته على مقاليد السلطة، ويشخصن أدوات ووسائل الحكم، فضلاً عن الحلقة الضيقة من الأشخاص المحيطين به، الذين يتعمد الإبقاء عليهم فى مناصبهم لأطول فترة ممكنة بحيث تحل العلاقات الشخصية محل العلاقات الموضوعية الوظيفية. والدولة هنا، فى آليات حركتها وتفاعلها، تكون منغلقة من دون أية آلية لعلاقة بينها وبين أى تكوين سياسى أو اجتماعى موجود داخل الدولة. فالنظام المتشخصن نظام منغلق لا ينفتح خارج ذاته، ولا يقدم آلية ما لإجراء أى تعديل أو تجديد، أو تغيير، ناهيك عن الاعتماد المفرط على آليات القمع المتبعة فى الدولة التسلطية.
مصر عاشت هذا التزاوج بين الدولة التسلطية بكل استبدادها وبكل فسادها، وبين الدولة المشخصنة التى اختزلت مصر كلها فى دولة «السيد الرئيس» دولة «الرجل الأوحد» الذى ليس له بديل، ولا يمكن أن يكون له بديل، لدرجة أن مجرد التفكير فى البديل كان يصنف على أنه «خيانة» وطنية، والمطلوب الآن إسقاط هذه الدولة كخطوة أولى لابد منها لأن الرئيس الجديد لن يستطيع أن يحمى مصر ويستعيد لها الأمن والاستقرار بأجهزة هذه الدولة ومؤسساتها ونخبها الحاكمة وكل الذين شاركوها فى مهمة الفساد والإفساد من طبقة رجال الأعمال، وهؤلاء هم من يتسابقون الآن ليفرضوا أنفسهم شركاء فى حكم دولة الثورة بزعم أنهم حلفاء الرئيس ورجاله.
المهمة الثانية، أى مهمة التأسيس لنخبة حاكمة جديدة من خارج «صندوق الحكم الفاسد» السابق، مهمة تتساوى فى أهميتها مع مهمة إسقاط الدولة التسلطية المشخصنة، ويجب أن تتزامن معها، عندها سيصل الشعب إلى يقين بأن مصر بدأت تسير فى الطريق الصحيح الذى ثارت من أجله، وعندها ستعود الثقة التى هى أساس كل حكم رشيد لتكون عنواناً للعلاقة بين الرئيس والدولة من ناحية والشعب بكل قواه الفاعلة وبالذات الشباب الثورى من ناحية أخرى.
من هنا تكون البداية الحقيقية لانتصار الثورة، ومن هنا تكون للرئيس كل القدرة على أن يتعامل بالكفاءة والاقتدار المطلوبين مع القضية الأمنية ومواجهة كل مصادر التهديد الداخلية والخارجية وتحقيق الاستقرار المنشود.