منذ أكثر من خمسين عاماً نشر أكاديمى هو "تشارلز بيرسى سنو" الأستاذ بجامعة كمبردج كتاباً كان فى الأصل محاضرة ألقاها بعنوان "الثقافتان"، وكان يعنى بهما ثقافة العلوم الطبيعية وثقافة العلوم الاجتماعية.
وقد هبطت عليه فكرة هذا الكتاب من ملاحظاته كأستاذ وهو يحضر اجتماعات مجلس جامعة "كمبردج"، فقد وجد أن علماء العلوم الطبيعية ينظرون من علٍ لأساتذة العلوم الاجتماعية على أساس أنهم وليس غيرهم من يمتلكون ناصية المنهج العلمى بمعناه الدقيق، فى حين أن أهل العلوم الاجتماعية لا يمتلكون سوى خطابات إنشائية عديمة القيمة سواء عن النفس الإنسانية أو المجتمع البشرى.
من ناحية أخرى فقد كان أساتذة العلوم الاجتماعية ينظرون إلى زملائهم علماء العلوم الطبيعية باعتبارهم لا يمتلكون الذكاء الكافى، وأن غرامهم الشديد بإجراء التجارب المنضبطة التى تسفر عن حقائق مطلقة مسألة مبالغ فيها للغاية!
هذا الرفض المتبادل بين هاتين القبيلتين إن صح التعبير دفعت "سنو" إلى تأليف هذا الكتاب الذى دعا فيه إلى تجسير الفجوة بين أهل العلوم الطبيعية وأهل العلوم الاجتماعية، من خلال التقريب بين المعطيات العلمية وتبادل الأفكار والنظريات.
وقد ذاعت شهرة هذا الكتاب وأصبح مرجعاً فى بابه وترجم منذ سنوات إلى اللغة العربية.
وتشاء الظروف أن يستقبل دعوة هنا الكتاب مجموعة من الأساتذة الأمريكيين فى جامعة كاليفورنيا الذين تحمسوا للتقريب بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، فألفوا مقرراً جامعياً فى شكل كتاب يجمع فى فصوله موضوعات عن الفيزياء والكيمياء والببيولوجيا، تجاورها فصول عن علم الاجتماع وعلم النفس ومشكلات البيئة. وقد ألفت هذا الكتاب أستاذة هى "مارى كلارك" وكتابها قرأته وتمتعت به ومازال فى مكتبتى.
وقد فوجئت منذ أيام وأنا أراجع الإصدارات الجديدة للمركز القومى للترجمة بكتاب عنوانه "الثقافات الثلاث: العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانيات فى القرن الحادى والعشرين" ألفه أستاذ أمريكى مقتدر هو "جيروم كيفان" وترجمه الدكتور "صديق محمد جوهر". والكتاب نشر مشترك بين المركز القومى للترجمة وسلسلة "عالم المعرفة" بالكويت التى يصدرها المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب.
وفد فوجئت حقاً وأنا أطالع السطور الأولى من "التوطئة" التى كتبها المؤلف إذ وجدته يقول "ذات مساء مكفهر من أماسى شهر مارس من العام2006 رأيت نسخة من كتاب "تشارلز بيرسى سنو" المعنون "الثقافتان" فوق رف يعلو موضع كتابين كنت أبحث عنهما فى قبو مكتبة "وايدنر" بجامعة "هارفرد". حينها تذكرت أن كتاب "سنو" المشار إليه قد أشار جدلاً وسجالاً عندما نشر قبل أكثر من خمسين عاما".
ولذلك قرر أن يكتب كتابه ليس فقط عن العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية فقط ولكن أيضاً عن الإنسانيات أيضاً كالتاريخ والنقد الأدبى.
وحين طالعت هذا الكتاب الهام أدركت أنه أفضل ما كتب على الإطلاق من وجهة النظر المعرفية عن هذه "الثقافات الثلاث" بلغة المؤلف. وهو بعد أن يعقد فصلاً بالغ الأهمية عنوانه "تأصيل الثقافات الثلاثة" يكتب فصلاً عن العلوم الطبيعية، وفصلان عن العلوم الاجتماعية، وفصل أخير عن التوترات الراهنة بين هذه العلوم.
وبحكم قراءاتى القديمة والمتجددة فى فلسفة العلوم وفى الاپـستمولوچـــــيا أقرر بكل ثقة أن هذا أفضل كتاب صدر فى الموضوع حتى الآن، لأنه يعكس آخر التطورات المعرفية ويناقش أهم المشكلات المنهجية والنظرية فى العلم المعاصر.
ترجمة الكتاب التى قام بها الدكتور صديق "محمد جوهر" رئيس قسم الآدب الإنجليزى بجامعة الإمارات العربية المتحدة وهو مترجم محترف نموذجية فى الواقع، وذلك لأننى لم أقرأ منذ سنوات كتاباً مترجماً بهذه السلاسة والدقة وكأنه مكتوب أصلاً باللغة العربية.
هذا كتاب يستحق أن يطالعه جميع المثقفين حتى لو لم يكونوا متخصصين لا فى العلوم الطبيعية ولا فى العلوم الاجتماعية ولا فى الإنسانيات!