يعتبر ملف السياسة الخارجية المصرية، الذى هو قرين بملف الأمن القومى المصرى والمصالح الوطنية المصرية العليا، من أهم الملفات التى يجب أن تشغل عقل وضمير مرشحى الرئاسة ومرشحى البرلمان أيضاً
ومن أهم الملفات الحاكمة لجدية أو عدم جدية انتماء أى من هؤلاء المرشحين لثورتى 25 يناير و30 يونيو، وبالذات بالنسبة لما يتعلق بشقى العلاقات المصرية الأمريكية والعلاقات المصرية الإسرائيلية، نظراً لأن أحد الأسباب والدوافع الأساسية لتفجر هاتين الثورتين وإسقاط نظامى مبارك والإخوان كان وجود قناعة وطنية تؤكد أن نظام مبارك ومن قبله نظام السادات قد فرضا على مصر علاقة تبعية للولايات المتحدة (تبعية سياسية وتبعية اقتصادية وتبعية عسكرية)، كما فرضا عليها خضوعاً للكيان الصهيونى من خلال إرغامها على التوقيع والالتزام بما سمى «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية»، وجاء نظام الإخوان لتثبيت كل هذه الالتزامات بعد ثورة 25 يناير وليزيد من التزامات مصر نحو أمريكا وإسرائيل بما يفوق التزاماتها السابقة فى عهدى السادات ومبارك.
إسقاط الشعب المصرى لهذين النظامين: نظام مبارك ونظام الإخوان يعني، من ضمن ما يعني، ضرورة صياغة سياسة خارجية مصرية جديدة تحكمها المصالح الوطنية المصرية العليا من ناحية واعتبارات الأمن القومى المصرى من ناحية أخرى كما تحكمها المبادئ الأصيلة المستوحاة من ثورتى الشعب فى 25 يناير و30 يونيو، وبالذات تطلع الشعب المصرى لأن تكون العزة والكرامة مبدأين حاكمين لسياسة مصر الخارجية، وأن تكون العدالة والحرية مبدأين حاكمين لإدارة السياسة المصرية فى الداخل.
هذا يعنى أن الرئيس الجديد سيكون معنياً بإعادة مراجعة ما كان يُعرف بـ «المشاركة الاستراتيجية المصرية الأمريكية» ولا نقول إلغاء هذه المشاركة، لأن مصر مطالبة بأن تكون لها مشاركات استراتيجية مع كثير من القوى الدولية سواء الولايات المتحدة أو مع الاتحاد الأوروبى ومع روسيا ومع الصين ومع اليابان وغيرها من القوى الدولية الصاعدة بما يخدم مصالح مصر العليا واعتبارات أمنها القومي. وبما يمنع الولايات المتحدة من التدخل فى شئون مصر الداخلية. سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وبما يمنع الولايات المتحدة من فرض أى ضغوط أو التزامات أو توجهات على علاقة مصر بالقوى الدولية والإقليمية، وبما يمنعها من إملاء أى شروط على التزامات مصر العربية.
وهذا يعنى أيضاً أن الرئيس الجديد سيكون مطالباً بمراجعة معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وبالتحديد ضمان الوجود والانتشار العسكرى الكامل لجيش مصر على كامل ترابه الوطنى فى سيناء. وإلغاء أى قيود تتعلق بتسليح الجيش المصرى وصناعة مصر العسكرية، ومنع الكيان الصهيونى من التدخل من قريب أو من بعيد فى الشئون الداخلية المصرية، وتحرير القرار الوطنى المصرى من أى قيود تفرضها تلك المعاهدة على علاقات مصر والتزاماتها العربية.
ضمن هذا الفهم كيف نقيِّم ما يطرح الآن فى بعض الأوساط الإعلامية المصرية مما يسمى «اختراقا جديدا» فى علاقة مصر بالولايات المتحدة على ضوء زيارة السيد اللواء محمد فريد التهامى رئيس المخابرات العامة المصرية للولايات المتحدة ولقائه مع وزير الخارجية الأمريكية جون كيرى وكيف نفهم الحديث عن هذا «الاختراق» على ضوء زيارة السيد نبيل فهمى وزير الخارجية المصرية الحالية للولايات المتحدة التى سيلتقى خلالها مع عدد من كبار المسئولين الأمريكيين على رأسهم وزير الخارجية جون كيرى ومستشارة الأمن القومى سوزان رايس.
الزيارتان تكشفان عن تحول أمريكى محدود فى التعامل مع مصر وفق قواعد والتزامات ما كان يسمى «المشاركة المصرية الأمريكية» ومع ذلك اعتبره البعض «اختراقاً» يستحق التهليل والتكبير فماذا لو قررت الولايات المتحدة العودة بالعلاقات مع مصر إلى سابق عهدها سنوات حكم نظامى مبارك والإخوان هل سنصف ذلك بالانتصار غير المسبوق؟
يا سادة نحن مطالبون بإعادة صياغة هذه المشاركة على نحو ما أشرنا ولا نسعى لإعادة ترسيخ شراكة التبعية لأمريكا وهيمنة أمريكا على مصر فى سياستها الداخلية والخارجية من خلال معونة مالية وعسكرية تحصل على مقابلها فى شكل التزامات مصرية بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية بكل ما تمثله من انتهاك للمصالح الوطنية العليا ومن تهديد للأمن القومى المصري، كما تحصل مقابلها على تسهيلات عسكرية هائلة أبرزها: مرور القوات والمعدات العسكرية الأمريكية دون قيود فى قناة السويس، واستخدام المجال الجوى المصرى لسلاح الجو الأمريكي، والتعاون المخابراتى والأمني، ناهيك عن كل ما تمثله المعونة العسكرية والاعتماد المصرى على التسليح الأمريكى من قيود على قدرات مصر العسكرية.
المثير للدهشة هنا أن هذا التهليل لما يسمونه «اختراقا» فى العلاقات المصرية الأمريكية جاء مقترناً ومرتبطاً بشروط أمريكية أبرزها استمرار الالتزام المصرى الكامل بأمن إسرائيل ومعاهدة السلام معها، والتزامات مصر بالتعاون الاستراتيجى مع أمريكا والتزاماتها نحو الديمقراطية والانتخابات النزيهة غير الإقصائية، أى التى لا تتضمن أى إقصاء للإخوان من المشاركة فى الحكم. ولقد أوضحت الولايات المتحدة على لسان المتحدثة بلسان الخارجية الأمريكية «جين بساكي» حدود هذا الانفتاح الأمريكى على مصر وشروطه من خلال الحديث عن مضمون الاتصال الهاتفى الذى أجراه وزير الخارجية الأمريكية جون كيرى بنظيره المصرى نبيل فهمى قبيل سفر الأخير إلى واشنطن وإبلاغه بأن (كيري) بصدد تقديم «إقرارين عامين إلى الكونجرس فيما يخص التزام مصر بالعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة متضمنة جهودها فى مكافحة الإرهاب الدولى وكذلك التزامها بتعهداتها تجاه معاهدة السلام مع إسرائيل»، كما أوضحت أن الوزير الأمريكى أكد أنه «لا يزال غير قادر على الإقرار أن القاهرة تتخذ خطوات لتعضيد عملية الانتقال الديمقراطى بما تتضمنه من انتخابات حرة وشفافة وتقليص القيود المفروضة على حرية إبداء الرأي»، أى أن أمريكا مازالت ملتزمة بقرارها فى 9 أكتوبر الماضى بتجميد المساعدات العسكرية لمصر بسبب تحفظاتها على ثورة 30 يونيو واعتراضها على ما حدث وما يحدث للإخوان.
هذا يعنى أن الانفتاح الأمريكى المحدود على مصر مازال محكوماً بما يمكن اعتباره «كتالوج فرض الهيمنة الأمريكية» وهذا ما يجب أن نرفضه وأن نؤسس نحن لعلاقاتنا مع أمريكا وفق ضوابطنا وشروطنا نحن التى تحمى مصالحنا الوطنية وأمننا القومي، وتمنع أمريكا وغيرها من فرض الوصاية علينا، ولن يتحقق لنا ذلك إلا بالتوقف عن الاعتماد على المعونة الأمريكية وصياغة مشاركة استراتيجية جديدة قائمة على الندية والمصالح المشتركة للطرفين، ولن نستطيع أن نفعل ذلك إلا بانتخاب رئيس لمصر يؤمن بهذا كله وبإسقاط نظامى مبارك والإخوان وإنهاء أى وجود أو نفوذ لـ «اللوبى الأمريكي» و«اللوبى الإسرائيلى» فى مصر على سياسة مصر الخارجية.