الانتخابات الرئاسية وانتكاسة الثقافة السياسية
الثلاثاء 13/مايو/2014 - 10:50 ص
تكشف أجواء الانتخابات الرئاسية أن كثيراً من المصريين مازالوا أسرى لثقافة نظام ما قبل ثورة 25 يناير، وبالذات ما يتعلق بالثقافة السياسية لذلك النظام التى جعلت منه نظاماً فاسداً ومستبداً. كثيرون يعتقدون أن الثورة هى مجرد إبعاد أشخاص أو محاكمتهم
ولا يتخيلون أن ذلك لا يعد إلا انقلاباً فقط، فالثورة هى إسقاط للأشخاص وللأفكار والقيم والمبادئ والسياسات التى أنتجها الحكم السابق، بل وإسقاط أنماط علاقاته وتحالفاته الداخلية وكذلك تحالفاته الخارجية عربية كانت أم إقليمية أو دولية، وإحلال أفكار وقيم ومبادئ وتحالفات أخرى بديلة تتوافق مع الثورة وأهدافها.
لقد استطاعت الثورة بالفعل أن تسقط الكثير من مرتكزات الثقافة السياسية لنظام مبارك وأن تخلق وعياً ثورياً وثقافة سياسية ثورية جديدة أعادت مصر للمصريين وأعادت المصريين للسياسة، لكن متابعة تفاعلات قطاعات واسعة من المصريين مع حملتى المرشحين الرئاسيين وأداء هاتين الحملتين يكشفان عن ارتداد وانتكاسة فى هذا الوعى الثورى وتلك الثقافة السياسية الثورية، ولدينا مؤشرات كثيرة على ذلك.
من هذه المؤشرات إنكار قطاع واسع من الشعب لحق مواطنين مصريين فى الترشح للانتخابات الرئاسية منافسين للمرشح الذى يراه هؤلاء الأجدر والأحق، من وجهة نظرهم. البعض كان مغالياً فى موقفه لدرجة اعتباره أى منافسة لمرشحه المفضل جريمة وتجرؤا على الإرادة الشعبية. مثل هذا التصور أو الإدراك يعد إنكاراً لواحد من أهم الحقوق السياسية التى يكفلها الدستور للمصريين جميعاً وهى حق الانتخاب وحق الترشح وفقاً لما ينص الدستور. فمن تتوافر له الشروط من المواطنين من حقه، بل من واجبه، إذا كان على قناعة بأن لديه ما يقدمه للوطن أن يتقدم للمنافسة.
من هذه المؤشرات أيضاً ميل قطاع عريض من المصريين إلى العودة للانسحاب من المشاركة فى الحياة السياسية وتفضيلهم اختيار شخص تتوافر فيه صفاة «البطل» أو «المنقذ» أو «الملهم» ليكون رئيساً ليس بدافع تقديرهم أو احترامهم لهذه الصفات فقط، بل لأنهم يريدون إلقاء كل أعباء المهمة على كاهل هذا الرجل، غير مدركين أنهم بذلك قد يسهمون فى إعادة إنتاج نظام الاستبداد والفساد مرة ثانية لتبقى مصر تدور فى حلقة مفرغة من النظم الفاسدة المستبدة والانقلاب عليها دون أن تتقدم إلى الأمام.
عندما كنا نعيش أجواء الثورة كانت عندنا القدرة على التحليل والفهم لما حدث لمصر فى عهد مبارك. كان لدينا وعى كاف لندرك أن مبارك تحول إلى حاكم مستبد، لأنه لم يجد من يراقبه أو يحاسبه لا من البرلمان ولا من الإعلام ولا من المفكرين أو الأحزاب السياسية، وعندما تحول إلى مستبد كان الفساد هو النتيجة الحتمية، فالطغيان مولد أساسى للفساد، والفساد يوفر بيئة مهيئة للمزيد من الاستبداد.
كنا على وعى أيام الثورة بأن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة»، كان هذا الوعى من أهم الدروس التى خرجنا بها من الثورة وتعاهدنا بأننا لن نسلم مصر أبداً إلى أى حاكم ولكننا سنكون شركاء معه فى كل كبيرة وصغيرة، وأننا سنراقبه ونحاسبه بل من حقنا أن نعزله متى شئنا، وجاء الدستور المصرى الجديد ليوثق هذه الحقوق وليعطى الشعب من خلال برلمانه، بشروط محددة، حق عزل الرئيس قبل انتهاء ولايته، وحق محاكمته، فهل بعد ذلك كله نقرر الانسحاب من واجبنا فى أن نكون جنباً إلى جنب مع الرئيس الجديد، ندعمه ونقويه بالحق وبجهودنا، وأن نصحح الأخطاء ونقومها، وأن نقاومه إذا انحرف عن الطريق القويم المحدد فى الدستور؟
تركيزنا على أن يكون الرئيس الجديد هو الشخص القادر على أن يتحمل المسئولية كلها ليس عيباً، فنحن فى حاجة فعلاً إلى «القوى الأمين» فى الظروف الشديدة القسوة التى نعيشها، لكننا، ونحن نختار هذا الرجل بهذه الصفات، يجب أن يكون دافعنا هو الرغبة الصادقة فى تحقيق ما نريد من أهداف وليس الانسحاب والعودة مجدداً إلى الظل دون نية وعزيمة حقيقية على أن نقوم بواجب المشاركة فى تحمل المسئولية مع الرئيس وأن نقوم بواجب المراقبة والمحاسبة لكل المسئولين فى الدولة ابتداءً من الرئيس وامتداداً إلى الحكومة والبرلمان والمسئولين عن الحكم المحلي، مراقبة ومحاسبة من أجل حماية الحكم ونزاهته ومن أجل حماية المال العام والثروة الوطنية كى لا يعود الفساد أو نعود لحكم الاستبداد والطغيان.
ودليلى أيضاً على انتكاسة ثقافتنا ووعينا السياسى بعد أعوام ثلاثة من الثورة أننا نضع ضمن أولوية شروطنا لاختيار الرئيس القادم أن يكون صاحب خبرة واسعة فى الحكم والإدارة. هذا الشرط المهم يعكس وعياً خاطئاً فى المواصفات والشروط التى يجب أن تتوافر فى الرئيس، لكن الأهم أنه يعكس وعياً خاطئاً بأصول الحكم ووظائف الرئيس وأدواره.
فالرئيس، فى النظم الديمقراطية، لا يشترط أن يكون عالماً فى كل شىء وقادراً على كل شئ، يكفى أن تتوافر فيه الشروط المطلوبة فى الدستور والقانون، وأن يمتلك العقل الراجح والوطنية الصادقة، والثقافة الكافية، ولا يشترط أن يعرف كل شىء ويقدر على فعل كل شىء، لأن الحكم فى النظم الديمقراطية هو حكم المؤسسات وليس حكم الفرد. فالرئيس فى النظم الديمقراطية ليس إلا أعلى منصب وظيفى فى الدولة، ولا يحكم بمفرده بل يحكم ومعه مؤسسات راسخة ومراكز وبحوث ومعلومات متخصصة، لكن الأهم هو الرأى العام الذى يقوم بالدور الرئيسى فى توجيه ومراقبة الحكم وأداء الرئيس.
فدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وباعتبارها من أبرز الدول الديمقراطية فى العالم، سبق أن انتخبت رئيساً كان يعمل ممثلاً هو رونالد ريجان، وهذا الرئيس حكم أمريكا دورتين، وكان قائداً أعلى للقوات المسلحة الأمريكية، وكان بالمناسبة رئيساً ناجحاً من منظور الأمريكيين، لأنه كان يحكم بالمؤسسات وكان يحترم الدستور ولا يطغى عليه. والرئيسان الأمريكيان بيل كلينتون وباراك أوباما ليسا إلا محاميين سابقين. ولذلك فإن تصورنا الخاطئ عن المواصفات التى يجب أن تكون متوافرة فى الرئيس، قد يأخذنا عن قصد، أو عن غير قصد، إلى التواكل والعودة مجدداً إلى حكم الفرد الذى يولد الاستبداد بدلاً من ترسيخ حكم المؤسسات، فقد عانينا كثيراً فى السنوات التى سبقت تفجر الثورة من «حكم الفرد» الذى تحول تدريجياً إلى حكم «الفرد المستبد» و«حكم الفرد الفاسد» لدرجة أن البعض عاش وهم أنه ليس هناك من فى مقدوره أن يخلف هذا الحاكم الفرد، وكان السؤال عن «ومن البديل؟!» هو السؤال التعجيزى للرد على كل من كان يقول «كفاية» ومن كان يقول «لا للتمديد.. ولا للتوريث».
لكن ما هو أسوأ أننا نعيش مع الحملة الانتخابية للمرشحين الرئاسيين نكسة وعى وثقافة سياسية بعيدة كل البعد عن ثورتنا ودروسها المهمة، فأداء الحملتين بعيد كل البعد عن كل ما تفرضه التحديات الهائلة التى تواجه مصر والتى تفرض تآزر كل المصريين وخوض المنافسة الانتخابية باعتبارها منافسة على العطاء والتكامل وليس الصراع وتجاوز كل ما يعد من أولويات إعادة بناء مصر.