من أهم أسباب التفاؤل بمستقبل مصر أن الرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسى رئيس لكل المصريين، غير محسوب على تيار سياسى أو على أى حزب سياسى بعينه، ولكنه محسوب على الثورة
وإذا جاز لنا تصنيفه سياسياً سنقول إنه يقف الآن على رأس «حزب الثورة»، وما نقصده هو أن الرئيس فى القلب من كتلة الثورة (25 يناير- 30 يونيو)، ومن ثم فإن مشروعه السياسى يجب أن يقوم على أنقاض النظامين اللذين أسقطتهما الثورة.
مطلوب من الرئيس أن ينتصر للثورة، ولن ينتصر للثورة التى أعلن انحيازه لها دون إسقاط كل ما تبقى من إرث هذين النظامين، لأن البعض مازال فى غيّه وعدائه للثورة سواء من يروجون أن الثورة كانت «مؤامرة خارجية» فى مسعى لإعادة تأهيل نظام مبارك، أو من يروجون لأكذوبة أن الثورة «محض انقلاب» ممن يعيشون وهم «العودة المؤكدة لرئيسهم محمد مرسي». هذا هو الجانب الأول من المعادلة الذى نفهمه، ويفهمه كل المصريين من إعلان الرئيس انتماءه للثورة والانحياز لها، أما الجانب الثانى فهو الجانب البنائى التأسيسى للنظام الجديد الذى أراده الشعب بثورته. بناء الدولة القوية باقتصادها وقواتها المسلحة، ووحدة شعبها، دولة الحق والعدالة القادرة على استعادة مكانتها العربية والإقليمية والدولية، واسترداد عزة وكرامة قرارها وسيادتها الوطنية، وهذا كله لن يتحقق إلا إذا استعاد الشعب كل مكتسباته وحقوقه التى خسرها طيلة العقود الأربعة الماضية خاصة حقه فى العلاج المجانى المحترم، وحقه فى التعليم المجانى المطور، وحقه فى العمل الشريف وحقه فى المسكن اللائق والمناسب، وقبل هذا كله حقه أن يحكم نفسه بنفسه، أن يختار من يحكمه، وان يكون شريكه فى السلطة فعلاً وليس قولاً.
معارك الرئيس كثيرة، لكن أهم هذه المعارك هى معركة استرداد ثقة الشعب فى الحكم، وهى الثقة التى تداعت إلى أدنى مستوياتها وكانت السبب الأهم والمباشر فى تفجير ثورتى 25 يناير و30 يونيو. الشعب يريد أن يثق فعلاً أن نظام مبارك سقط ولن يعود بكل ما يعنيه هذا النظام، وأن نظام الإخوان سقط ولن يعود. هذا لا يعنى أن الشعب يلقى مسئولية القيام بهذه المهمة على الرئيس وحده، لكنه يريد فقط أن يثق فى أن هذه هى معركة الرئيس، أو أولى معاركه وهو يقاتل فعلاً ليواجه الأزمتين الكبيرتين: الأزمة الأمنية والأزمة الاقتصادية، فى وقت لم يعد مسموحاً أن تبقى مصر خارج دائرة الفعلين العربى والإقليمي. وكل المطلوب أن يقدم الرئيس مؤشرات أو «أمارات» تجعل الشعب على ثقة أن الحكم هذه المرة يسير نحو الطريق السليم والصحيح.
يأتى فى مقدمة هذه المؤشرات شخوص الطاقم الذى سيعمل مع الرئيس من مستشارين ومساعدين والحكومة بوزرائها، والمحافظين ورؤساء المؤسسات والأجهزة التنفيذية. هؤلاء سوف يعهد إليهم بمسئولية تنفيذ مشروع الرئيس، وكم ستكون صدمة الشعب هائلة لو رأى عودة لأى من تلك الوجوه الكريهة الفاسدة التى شاركت فى الحكم فى نظام مبارك أو نظام الإخوان أو روجت أو دافعت عن هذين النظامين. الأمل أن يختار الرئيس رجاله بعناية، ومن خارج إطار صندوق الاختيارات الفاسد السابق وترشيحات بعض الأجهزة لمحاسيبها وأعوانها ليكونوا دمى يسهل تحريكها والسيطرة عليها. ولا ينافس هذه المهمة فى أولوياتها وأهميتها غير معركة استكمال خريطة الطريق وانتخاب برلمان بمستوى الثورة وطموحات الشعب، برلمان يكون قادراً على القيام بوظيفتى التشريع وسن القوانين أولاً، والرقابة والمحاسبة للسلطة التنفيذية بكل مستوياتها ثانياً، كى يمكّن الشعب، بنوابه، من أن يكون شريكاً حقيقياً فى الحكم وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.
فإذا كان الأصل فى الحكم الديمقراطى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، أى «الديمقراطية المباشرة» فإن الصعوبة العملية لذلك فرضت ما بات يُعرف بـ «الديمقراطية التمثيلية»، أى أن يختار الشعب من يمثلونه وينوبون عنه فى الحكم. النواب المنتخبون ديمقراطياً شركاء إذن فى السلطة والحكم باسم الشعب وإرادته، ويبقى المعيار الصحيح للحكم على نزاهة الحكم أو فساده هو مدى تمكين الشعب أن يختار بحرية كاملة من يثق فى أنهم أفضل وأكفأ من ينوبون عنه ويمثلونه فى حكم مصر من خلال دورهم داخل البرلمان والقيام بوظائفهم الدستورية داخله.
بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن الشعب يريد أن يثق فى أنه سوف يختار بإرادته من ينوبون عنه ويمثلونه فى مجلس النواب وأنه لن توجد عوائق تحول دون ذلك. والعوائق تأتى من تدخلات الأجهزة الأمنية لصالح مرشحين دون غيرهم، وقد تأتى من سطوة المال السياسى ونفوذه (كان أحد أهم أسباب قيام ثورة 23 يوليو 1952 إنهاء سيطرة رأس المال على الحكم)، لكن التدخل الأخطر هو التدخل التشريعى والقانوني، بسن قوانين انتخابية هدفها تزييف إرادة الناخبين، وهذا هو الخطر الفادح الذى نواجهه هذه الأيام للأسباب التالية:
- يعطى قانون انتخابات مجلس النواب الذى صدر أخيرا نسبة 78% للانتخاب الفردي، وهذا النوع من الانتخاب يمكن وصفه بأنه «إقصائي» لأنه يعطى للفائز «بنسبة 50% +1» حق الفوز بالمقعد ويهدر ويسقط ويتجاهل تماماً الإرادة الانتخابية لحوالى 49.9% من الناخبين، إرادة هؤلاء لا تجد من يمثلها داخل البرلمان.
- يعطى هذا القانون لنظام القائمة المغلقة نسبة 22%، وهذا يعنى أن القائمة التى تحصل على نسبة «50%+1» سيكون لها الحق فى أن تحظى بالدائرة وأن تفوز كلها، وأن تحصل على كل المقاعد المخصصة للقائمة فى هذه الدائرة، وتحرم، فى ذات الوقت، إرادة ما يساوى نسبة 49.9% من مواطنى هذه الدائرة ولا تجد من يمثلها داخل البرلمان. وفق هاتين القاعدتين نستطيع أن نقول إن حوالى 49% من الشعب (نصف الشعب تقريباً) لن يكون لإرادته أى وجود داخل البرلمان، أى حرمان نصف الشعب تقريباً من أن يكون شريكاً فى الحكم، وهذا يعد اعتداء سافراً على العدالة المؤكدة بالنص الدستوري.
- يقسم القانون القطر المصرى إلى دوائر واسعة، يستحيل للقوائم أن تتحرك داخلها، كى يتبصر الناخب بأعضاء هذه القائمة وجدارة هؤلاء من عدمها وستكون الفرصة سانحة للقائمة الأعلى صوتاً التى تملك المال السياسى الوفير، والتى يمكن أن تروج كذباً أنها محسوبة على الرئيس دون غيرها، وهذا أيضاً اعتداء سافر على العدالة.
- كما أن الدوائر الواسعة للقوائم تنهى تماماً خصوصية المحافظات وارتباط النواب بمحافظاتهم. لكل ما سبق نأمل فى أن يتدخل الرئيس ليحمى حق الشعب فى أن يختار نوابه، وممثليه بعدالة ومساواة وحرية، وأن يحمى الثورة وخريطة المستقبل فى أن يأتى برلمان على مستوى طموحات الشعب وإرادة الثورة وعظمة الدستور ومكانة الرئيس الذى اختاره الشعب. فالشعب يريد برلماناً يكون شريكاً فى الحكم وقادراً على تحمل المسئولية، وليس كما يزعم البعض أن يكون ظهيراً سياسياً للرئيس ومنفذاً لأوامره، فهذا افتئات على الرئيس وإهدار للقيم العليا للحكم الديمقراطى لا يرضاه الشعب ولا يقبله الرئيس ويهدر الثقة فى الحكم والنظام كله.