هناك إجماع بين علماء السياسة المعاصرين على أن الديموقراطية العالمية تمر بأزمة خانقة. ونحن تستخدم مفهوم الديموقراطية العالمية على أساس أن حصاد القرن العشرين فى مختلف أنحاء العالم أثبت أن الديموقراطية هى النظام السياسى الأفضل لتحقيق إرادة الشعوب، سواء فى مجال الحرية السياسية أو فى ميدان العدالة الاجتماعية. وذلك لأن خبرة الممارسة العملية أثبتت بغير شك أن الشمولية كنظام سياسى سقطت تاريخياً، وخصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتى الذى كان رمزاً عليها. كما أن السلطوية بأنماطها المتعددة فى الشرق والغرب والشمال والجنوب قد هوت بالرغم من أن بعض قلاعها مازالت تقاوم رياح التغيير.
وعلى ذلك لم يبق سوى الديموقراطية باعتبارها النموذج المثالى لأى نظام سياسى معاصر يأخذ فى حسبانه التغيرات السياسية والحضارية الكبرى التى شملت العالم، وخصوصاً فى بداية القرن الحادى والعشرين.
غير أن الديموقراطية -ربما منذ نشأتها الأولى – واجهت أزمات متعددة، غير أن هناك بحوثاً معتبرة تركز على أن الأزمة الكبرى للديموقراطية المعاصرة بدأت مع مقدم حقبة السبعينيات.
غير أنه لابد لنا أن نميز بين أزمة الديموقراطية فى أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وأزمة الديموقراطية فى عديد من بلاد العالم الثالث وفى مقدمتها البلاد العربية. وذلك للاختلاف الجوهرى فى التاريخ السياسى والاجتماعى بين الدول الغربية وباقى الدول.
ونريد اليوم أن نتعمق أسباب أزمة الديموقراطية الغربية من خلال بحث منهجى يركز على ثلاثة محاور. المحور الأول هو العرض النقدى للنظريات السياسية الأساسية التى عالجت الموضوع، والمحور الثانى ضرورة تحرير المفاهيم الخاصة بالديموقراطية والأزمة، والمحور الثالث هو التساؤل عن أنسب الاستراتيجيات البحثية التى ينبغى تطبيقها للإجابة على سؤالنا الرئيسى وهو هل هناك حقاً أزمة فى الديموقراطية المعاصرة؟
وسنعتمد فى عرضنا على أشمل دراسة فى العلم الاجتماعى المعاصر التى عالجت الموضوع بعمق نظرى واقتدار منهجى، وهى التى حررها البروفيسور "وولفجانج ميركل" Wolfgang Merkel بجامعة همبولدت فى برلين.
ويمكن القول أن نظريات أزمة اليدموقراطية ظهرت فى السبعينيات من القرن الماضى، وكان قطبها البارز هو الفيلسوف الألمانى الشهير "هابـرماس" Habermas الذى نشر عام 1973 كتاباً نقدياً بالغ الأهمية عنوانه "أزمة الشرعية فى الرأسمالية المعاصرة". ويضاف إليه مؤلفات عالم سياسة أخر هو "كلوز أوف" Claus Offe والتى نشرت فى أعوام 1971، 1979، 1984. وبعد كتاب "هابـرماس" بثلاث سنوات نشرت "اللجنة الثلاثية" تقريراً شهيراً كتبه كل من "ميشيل كروزيه" الفرنسى و"صمويل هنتنجتون" الأمريكى و"واتاناكى" اليابانى بعنوان "أزمة الديموقراطية" كان له صدى عالمياً كبيراً. وبعد ذلك بثلاثين عاماً ظهر مفهوم ما بعد الديموقراطية post democray والذى ابتدعه ثلاثة من علماء السياسة هم "كولن كروس" (2004) و"جاك رانسييه" 2002، 2007، و"كولن هاى" 2007.
وبغير الدخول فى مناقشات نظرية ومنهجية لا يسعها هذا المقال يمكن القول أن حصيلة هذه النظريات جميعاً تتمثل فى تحديد الأسباب العميقة لأزمة الديموقراطية الغربية المعاصرة.
ومنذ البداية يقرر البروفيسور "ميركل" الذى قام بالمسح النظرى لهذه النظريات الثلاث أنها جميعاً لم تقدم أفكاراً محددة يمكن اختبارها إمـﭘيريقياً.
ومع ذلك يمكن القول أن خلاصة نظرية ""هابرماس" هى أن الأزمات الاقتصادية تهدد استقرار ونوعية الديموقراطية. ولعل "أزمة اليورو" التى ظهرت عام 2008 تشير إلى أهمية هذه الفكرة.
ومن ناحية أخرى فإن نظرية "كولن كروس" والتى يمكن إجمالها فى السؤال من يحكم؟ تقرر أن العولمة من جانب والتكامل الأوروبى الذى تم بالتطبيق لنظرية الليبرالية الجديدة newlibralism تشير إلى تحديات متعددة للنظام الديموقراطى، والسؤال المطروح هنا هو هل المؤسسات الديموقراطية الشرعية هى التى تحكم فعلاً أم هى الشركات الكونية الكبرى والأسواق المالية العالمية والبنوك المركزية أو جماعات الضغط Lobbies هى التى تحكم فعلاً من وراء ستار؟
ومن ناحية أخرى أشار عدد من كبار الاقتصاديين العالميين ومنهم من حصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد مثل "ستيجلتز" Stieglitz (2012) و"كروجمان" Krugmian (2012) إلى تصاعد ظاهرة عدم المساواة فى العالم الغربى. ويلفت النظر أن هذين العالمين على وجه الخصوص هما اللذان وافقا بشدة على نظرية الاقتصادى الفرنسى "توماس ﭘيكيتى" Thomas Pikitte والتى نشرها فى كتابه الذى أثار ضجة عالمية وعنوانه "رأس المال فى القرن العشرين".
فى هذا الكتاب الهام خلص مؤلفه – بناء على دراسة تطور رأس المال فى القرون الثلاثة الأخيرة وفى 23 بلداً إلى أن ظاهرة "عدم المساواة" تصاعدت إلى معدلات غير مسبوقة، بحيث أن عشر السكان الذين يمثلون أصحاب رؤوس الأموال يحصلون على عوائد تفوق كل ما يحصل عليه العاملون بمختلف فئاتهم فى صورة أجور.
غير أن النتيجة الخطيرة التى توصل إليها "ﭘيكيتى" هى أن أصحاب رؤوس الأموال بهذه الصورة سيمتلكون الثروة والسلطة أيضاً، على أساس أن النظام الديموقراطى سيتحول إلى نظام "أوليجاركى" أى حكم القلة، ومعنى ذلك نهاية الديموقراطية كنظام سياسى!
وهذا الوضع يثير تساؤلات جوهرية لعل أهمها من الذى مازال يشارك فى العملية السياسية، وما هى المصالح التى تتم حمايتها والدفاع عنها، وهل هى مصالح الجماهير العريضة الذين يتقاضون أجوراً أم مصالح كبار الرأسماليين الذين ينهبون الثروة القومية فى صورة عوائد رأس المال؟
وهل نحن نتجه – فى العالم الغربى- إلى اتجاه يتمثل فى تهميش ثلثى السكان فى المجتمع لحساب الثلث الذى يملك الثورة والسلطة معاً؟
ولو رجعنا إلى الموجة الأولى للبحوث التى أجريت عن أزمة الديموقراطية والتى أشرنا إليها فى صدر المقال، وفى مقدمتها التقرير الشهير "للجنة الثلاثية" "ازمة الديموقراطية"، لاكتشفنا أنه يحلل أسباب الأزمة فى كون أن الحكومات الغربية أصبحت مثقلة بمطالب المشاركين فى العملية السياسية والتى لم تستطع الأنظمة السياسية البيروقراطية أن تلبيها، وبالتالى أصبحت المؤسسات الديموقراطية عاجزة عن القبض على مقاليد الحكم. وفيما يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية فإن التقرير يقرر "أن نبض الديموقراطية من شأنه أن يجعل الحكومة أقل قوة وأكثر نشاطاً مما يدفعها إلى زيادة الوظائف التى تقوم بها، وهذا فى حد ذاته يؤدى إلى التقليل من سلطاتها "ويخلص التقرير إلى أن "فائض الديموقراطية" إن لم يتم احتواؤه فإن ذلك سيؤدى إلى أن تكون الحكومة الأمريكية أقل قدرة على الحفاظ على التجارة الدولية وضمان التوازن فى الميزانية وينقص من قدرتها على أن تكون قوة مهيمنة فى العالم Hegemoniec power!
ولعل هذا التوصيف الزائف لأزمة الديموقراطية والذى صاغته مجموعة من المفكرين المحافظين هو الذى جعل المفكر الأمريكى الشهير "نعوم شومسكى" يعلق عليه قائلاً "إن هذا التقرير نموذج للسياسات الرجعية التى صاغها الجناح اليمينى فى النخبة السياسية الحاكمة المتحكمة فى الدولة الرأسمالية".
وهكذا يمكن القول أن النظريات السائدة فى علم السياسة المعاصر عن "أزمة الديموقراطية" يمكن أن تنحرف دفاعاً عن السياسات الرجعية للدولة الرأسمالية المعاصرة، باصطناع أسباب وهمية مثل فائض الديموقراطية! وهذه الأسباب الوهمية هى التى نسفها نسفاً "توماس ﭘيكتيى" حين صاغ قانونه الأساسى "وهو أن ظاهرة عدم المساواة المتصاعدة فى الدول الغربية ستقضى على الديموقراطية كنظام سياسى إلى الأبد، وستفتح الباب أمام تحالف الثروة والسلطة ليصبح النظام معبراً عن حكم القلة من أصحاب رؤوس الأموال الكبرى"!