أربعـة مرتكزات عصــرية للريــادة المصــــرية
على
الرغم من كل الأزمات الحادة والقاسية
التى تواجهنا داخل مصر سواء على المستوى
الاقتصادى بكل تفريعاته أو على المستوى الأمنى بكل إرهاقاته فإن
قدر مصر وقدر العرب معاً يفرض علينا أن
نقوم بدور ريادى يحتاجه العرب كما نحتاجه
نحن، فالكل يشعر منذ سنوات
أن الغياب المصرى عن
القيام بهذا الدور قد أحدث فراغاً تسعى القوى الإقليمية الكبرى الثلاث فى المنطقة الواسعة التى
نعيش فيها والتى تحمل اسم «إقليم
الشرق الأوسط»: إسرائيل وتركيا
وإيران إلى ملئه بطريقتها الخاصة وبإملاء من مشروعاتها القومية وبدافع من مصالحها الوطنية ونحن
جميعاً أبناء الوطن العربى من ندفع الثمن.
فكل من هذه القوى الإقليمية الثلاث يسعى إلى التوسع وبسط النفوذ
والترويج لمشروعه السياسى على أرض العرب
والنتيجة هى المزيد من الاستقطاب والمزيد
من مشروعات إعادة ترسيم خرائط العرب السياسية وإعادة تقسيم ما سبق
تقسيمه، والمزيد من استنزاف الموارد
العربية، والمزيد من انخراط العرب فى مخططات
وتحالفات عسكرية مع الخارج تهدد كل أبجديات الأمن القومى بحثاً عن
أمن مفتقد تعجز آلاف المليارات عن
شرائه، لسبب بسيط هو أن الأمن لا يباع ولا
يشترى لأنه بالأساس «صناعة
محلية» ولا يمكن أن يكون غير
ذلك.
فمنذ
سنوات طويلة مضت وفى أوج سقوطنا فى مستنقع التبعية للأمريكيين خرجت أصوات من
داخلنا تهاجم بضراوة كل ما يتعلق بدعوة «الدور
المصري» وتستنكر أن يكون لمصر
دور له اعتباره عربياً وإقليمياً، على الأقل، وتروج لأكاذيب من نوع أن مصر استنزفت ثرواتها
على العرب، بل أن البعض تمادوا فى تضليلهم
المدروس والممنهج إلى حد إنكار عروبة مصر. كان هذا كله مقدمة لأمرين أولهما: النيل
من الأمن القومى المصرى من خلال تقطيع شرايين الجسد الذى يربط مصر
بأمتها العربية. وثانيهما، تهيئة مصر
للغرق فى مستنقع الخضوع لإسرائيل والتبعية
للأمريكيين، لذلك لم يكن غريباً أن يخرج أحد هذه الأصوات ليقول
بتبجح مذهل أن «الاستعمار
هو الحل»،
أى أن الحل السحرى لمصر من كل أزماتها يتلخص فى أن تعود دولة مستعمرة
(بفتح الميم) خاضعة
لمن هم قادرون على توفير احتياجاتها الحياتية، بكل ما يعنيه ذلك من دفع أثمان هذه
الاحتياجات من شرفها وكرامتها.
الآن
نستطيع أن نقول إن هذا العهد
قد مضى بحمد الله غير مأسوف عليه، بعد أن أسقطت ثورة 25 يناير
جمهورية الذل والعار والاستكانة
والتبعية، أسقطت الدولة العاجزة الرخوة، وتطلعت إلى إعادة بناء مصر بسواعد
المصريين بالشكل الذى يريده المصريون ومن بين معالم مصر الجديدة التى نريدها، أن
تكون رائدة لأمتها العربية، وأن تستجيب
لواقع سياسى واقتصادى وأمنى عربى يفرض على مصر أن تقوم بهذا الدور،
وهنا يجب أن نُعيد طرح سؤال:
أى دور وأى ريادة يجب أن تقوم بها مصر
عربياً؟ ما هو الدور وما هى الريادة التى
ينتظرها ويريدها العرب من مصر وتستطيع مصر أن تقوم بها واعية بقدرتها
على ذلك ومدركة أن هذا الدور وهذه
الريادة ذات ارتباط وثيق بكل جهود إعادة بناء مصر من الداخل.
الإجابة
على هذا السؤال يجب أن تنطلق من إدراك مزدوج: إدراك
بعبقرية المكان والموقع الجغرافي- الاستراتيجى
لمصر فى قلب وطنها العربى الذى يحكم هذا الدور وتلك الريادة، وإدراك بعبقرية الزمان الذى تعيشه مصر
وتعيشه الدول العربية الآن، بمعنى إدراك
القضايا المحورية النابعة من الواقع الزمانى الذى نعيشه الآن والذى
يختلف كثيراً عن الواقع الزمانى فى عقدى
الخمسينات والستينات.
فى
هذين العقدين (الخمسينات والستينات
من القرن الماضي) استطاع الزعيم جمال
عبد الناصر أن يقرأ بوعى قضايا زمانه وأن يمتلك عبقرية ما يسمى
«فقه الأولويات» ويحدد
جدول أعمال الأمة العربية ودور مصر فى القلب منها، ومن هنا كان
نجاحه فى أن يتعرف على ماذا تريد الأمة
العربية من مصر وماذا تستطيع مصر أن تقدمه
وبتفوق إلى الأمة العربية، واستطاع أن يقود مصر لأداء هذا الدور
بتفوق شهد له به أعداؤه قبل أصدقائه.
نحن
الآن فى حاجة إلى عبقرية
من هذا النوع، واستطيع أن أقول أن قراءة خرائط التفاعلات السياسية
والأمنية والاقتصادية، مصرياً وعربياً،
وبالذات ما يتعلق بأنماط التحالفات والصراعات
وأدوار القوى الدولية والإقليمية تفرض أربعة مرتكزات للريادة المصرية المطلوبة عربياً الآن، تعد
بمثابة أربعة محاور للدور المصرى المطلوب
عربياً؛ الركزية الأولي، أن تقدم مصر للعرب نموذجاً للدولة العصرية
الديمقراطية، القادرة على أن تحافظ على
تماسكها الوطنى عبر منظومة متكاملة من
السياسات تقضى على كل أشكال التمييز بين المصريين: التمييز
الدينى والتمييز الطبقي، والتمييز الجغرافى والمناطقي، وأن تقيم
الدولة المدنية الديمقراطية التى ترتكز
على مبدأ المواطنة المتساوية، ومبدأ العدالة
الكاملة وبالذات العدالة فى
الحريات والعدالة فى الحقوق، وأن تجعل التقدم
العلمى والتكنولوجى عنواناً لنهضتها التى تسعى إليها.
الركيزة
الثانية، أن تقدم مصر
للعرب نموذجاً لبناء مصر دولة متقدمة اقتصادياً، قادرة على أن تصل إلى
مستوى يؤهلها أن تكون ضمن الاقتصادات
العالمية المتقدمة، من خلال بناء نظام اقتصادى
عصرى منتمى وبجدارة إلى «اقتصادات
القرن الحادى والعشرين»،
وأن تدخل بمصر إلى عصر الصناعات الكبرى الخمس التى بدونها لن تكون مصر ضمن
الاقتصادات العالمية المتطورة: صناعة
المعلومات (هذه الصناعة هى التى
ستدخل مصر إلى عصر صناعة المعرفة وهى الصناعة الرائدة الآن فى القرن الحادى
والعشرين)،
وصناعة الفضاء، والصناعة النووية،
والصناعة العسكرية المتقدمة وصناعة الطاقة،
وأن تكون قادرة على حل إشكالية العلاقة بين حرية السوق من ناحية
وتحقيق العدالة الاجتماعية من ناحية
أخري، وبالذات بناء نموذج اقتصادى قادر على
تحقيق التقدم بآليات السوق ضمن ضوابط التخطيط الضرورى من ناحية وتحقيق
التوازن الطبقى من ناحية أخرى عن طريق
توفير «الفرصة المتكافئة»
للجميع عن طريق إقرار مبدأ
«المساواة العادلة».
الركيزة
الثالثة، أن تقدم مصر
للعرب نموذجاً لبناء نظام أمن عربى قادر على تحقيق التوازن فى القوة مع
القوى الإقليمية الثلاث فى الشرق
الأوسط، طموحاً لبناء نظام للأمن والتعاون
فى الشرق الأوسط قائم على توازن القوى وتوازن المصالح معاً بين
العرب وهذه القوى الإقليمية المنافسة،
نظام للأمن يكون قادراً على تحقيق التوافق
والانسجام بين ضرورات الأمن الوطنى لكل دولة عربية واعتبارات الأمن
القومى العربي.
الركيزة
الرابعة، أن تقدم مصر
للعرب نموذجاً للتجدد الحضارى وحل إشكالية العلاقة بين الإسلام السياسى
والسلطة، عن طريق بناء نسق قيمى يحقق
التوازن بيين المواريث والمكتسبات، النابعة
من الخصوصية العربية الإسلامية وبين واقع العصر الذى نعيشه والعالم
الذى نتعامل معه بقيمه وأفكاره.
أربعة
مرتكزات أحسب أنها تعد
بمثابة جدول أعمال لدور مصرى ريادى ودعائم لمشروع عربى تقوده مصر، أثق
أنها تقدر عليه، وأن الأمة فى شوق إليه.