تداعيات محتملة: أبعاد وحدود الدور التركي في سوريا بعد سقوط الأسد
بعد سقوط نظام الأسد، برزت تركيا كفاعل
رئيسي في الملف السوري حيث أصبحت محطة مهمة للنقاشات الدولية والإقليمية. ومع
دورها المحوري في تحقيق الاستقرار الداخلي وملف اللاجئين وإعادة الإعمار، وهو ما
دفع الأنظار إلى أنقرة باعتبارها حجر زاوية للحل السوري المرتقب. وفي ظل الحراك الدبلوماسي المتزايد، أصبحت الاتصالات بين الرئيس التركي
رجب طيب أردوغان والقادة الغربيين خطوة لا غنى عنها لمناقشة القضايا السورية
العالقة. فأنقرة تُعتبر الآن حلقة وصل حاسمة بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية
في هذا الشأن.
وقد صرَّح وزير الخارجية التركي هاكان
فيدان بأن تركيا لعبت دورًا رئيسيًا في إقناع روسيا وإيران بعدم التدخل عسكريًا
خلال هجمات الفصائل في سوريا. وأن تركيا نجحت في تقليل الخسائر البشرية قدر
الإمكان بفضل تفاهمات مع الأطراف الدولية، مشددًا على أن أنقرة تملك الخبرة الأكبر
في التعاطي مع هيئة تحرير الشام والقضية السورية بشكل عام.
أبعاد متعددة
مع الإطاحة بحكم الأسد في سوريا، وجدت تركيا نفسها في مواجهة
والولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالترتيبات المعقدة من الناحيتين الأمنية
والسياسية، في منطقة شرق الفرات حيث تتمركز قوات سوريا الديمقراطية ( قسد)، والتي
تعد نقطة خلاف بين واشنطن وأنقرة؛ حيث تعتبر تركيا أن قوات (قسد) تمثل تهديدا
لأمنها القومي، إذ تراها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، في حين تعتبرها واشنطن
شريكة لها في مكافحة الإرهاب ومواجهة تنظيم داعش.
ومن المرجح أن يوفر سقوط نظام الأسد لأردوغان فائدة أخرى لفرصة
المصالحة مع واشنطن. والواقع أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا والتعاون مع
وحدات حماية الشعب الكردية قد تسببا في توتير العلاقات الثنائية وتعقيد العمليات
التركية في المنطقة.
على الجانب الآخر، أعلنت تركيا أنها لن
تكتفي بإعادة فتح السفارة في دمشق أو إقامة علاقات طبيعية مع الإدارة السورية
الجديدة؛ حيث صرحت وزارة الدفاع التركية عن استعداد أنقرة لتقديم دعم عسكري
وتدريبي للإدارة السورية الجديدة، وهو ما يشير إلى مرحلة جديدة من التحولات في
موازين القوى بسوريا، مع تراجع النفوذ الروسي والإيراني بعد سقوط نظام الأسد.
وفي ظل هذه التطورات، يتضح أن تركيا
تسعى إلى ترسيخ دورها كقوة إقليمية فاعلة في سوريا، مستغلة انشغال الولايات
المتحدة بالانتخابات وتراجع النفوذ الروسي والإيراني. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا حول مدى قدرة تركيا على فرض رؤيتها دون
صدام مباشر مع الأطراف الأخرى، خصوصا في ظل التوترات المستمرة حول قضايا الأكراد
والتنظيمات المصنفة إرهابية.
عملية عسكرية جديدة
يمثل الحديث عن حملة عسكرية تركية
وشيكة، ضد الأكراد في شمال سوريا، امتدادًا للحديث الذي لم ينقطع عن أبعاد الدور التركي
في الحملة التي قادتها المعارضة السورية، والتي أطاحت بحكم الرئيس السوري السابق
بشار الأسد.
وقد أعلنت الولايات المتحدة أن وساطة قادتها أفضت إلى تمديد
هدنة بين مقاتلين موالين لتركيا وقوات كردية سورية في منطقة منبج، وأنها تسعى إلى
إرساء تفاهم أوسع نطاقًا مع أنقرة. وقال المتحدث باسم وزارة
الخارجية الأميركية ماثيو ميلر في تصريح لصحافيين إن الهدنة في منبج والتي كانت قد
انقضت مدتها تم تمديدها، أن واشنطن ستعمل على تمديد وقف إطلاق النار إلى أقصى حد
ممكن في المستقبل. ويأتي تمديد الهدنة في ظل مخاوف من هجوم تركيا على بلدة كوباني
الحدودية مع تركيا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية والمعروفة أيضًا باسم
عين العرب، بعد أسبوع على إسقاط فصائل معارضة مسلّحة تدعمها تركيا الرئيس السوري
بشار الأسد. ومن ناحية أخرى، أعرب قائد قوات سوريا
الديمقراطية مظلوم عبدي عن استعداد قواته تقديم مقترح إنشاء منطقة منزوعة السلاح
في منطقة كوباني عين العرب حتى لا تتزرع تركيا بشن عمليات عسكرية في هذه المنطقة،
وإنه على الرغم من أن تركيا يمكن
الإشارة إليها باعتبارها المنتصرة بعد سقوط الأسد. ومع ذلك، لا تستطيع أنقرة أن
تتجاهل الدور الكردي في تسوية ما بعد الحرب.
تحديات ماثلة
على الرغم من أن سوريا في مرحلة ما بعد
الأسد توفر فرصاً لأنقرة، فإن هناك أيضًا أخطارًا لا يمكن تجاهلها وتتمثل في أن
القوى التي يقودها الإسلامويون والتي أطاحت بالنظام السابق يمكن أن تعزز عدم
الاستقرار والتطرف في ظل صعوبة إدارة المرحلة الانتقالية. ومن غير المؤكد أن
الجماعات التي حلت محل الأسد ستكون قادرة على معالجة هذه المشكلات. فقد أعلن
المتمردون عن تعيين رئيس وزراء موقت، بيد أن سيطرة الحكومة الجديدة لم تتوطد بعد
بصورة كاملة. وإن تمكنت تركيا من التحرك بهدف المشاركة في جهود إعادة الإعمار
الضخمة التي تحتاج إليها سوريا الآن، سيكون لها بالتأكيد دور ما تلعبه فيها. كما
إن دعمها المجموعات التي تمسك بزمام المسئولية، والحدود الطويلة التي تشترك فيها
مع سوريا، ووجودها العسكري في البلاد يمنحها نفوذًا كبيرًا ومع ذلك، لن تكون أنقرة
قادرة على إملاء كيفية حكم القادة الجدد في دمشق.
ومن المستبعد أن تسعى تركيا إلى توفير
شروط سخية لأكراد سوريا، خصوصًا أنها ترفض منح سكانها الأكراد حقوقًا أساسية، ومن
ثم وفي حال فشل النظام الجديد في ترسيخ الحقوق المتساوية لجميع السوريين في
القانون والممارسة، فقد لا تبدو سوريا الجديدة مختلفة كثيرًا عن تلك القديمة. ولن
تكون هذه النتيجة جيدة بالنسبة إلى أنقرة.
وضمن السياق ذاته وباعتبار تركيا
الوسيط القوي التي ساهمت في سقوط نظام الأسد، فإنها ستتحمل مسئولية العواقب
الناتجة عن مشكلات سوريا وإن كان الواقع يشير إلى أن وجود حكومة صديقة في دمشق قد
يفتح الأبواب بالفعل أمام أردوغان. فهو يريد أن يعود اللاجئون إلى سوريا، ويرغب أن
يكون حلفاؤه من العاملين في قطاع البناء في تركيا، بين المشاركين في إعادة إعمار
سوريا. إن هذا الفوز في سوريا قد عزز من مكانة أردوغان، وهو ما يأمل في أن يستغله
من أجل تدعيم علاقاته مع الغرب ومع بلدان في المنطقة. ولكن إذا انزلقت سوريا إلى
الفوضى مرة أخرى، وصارت أرضًا خصبة للإرهاب وعدم الاستقرار، لربما يدفع هذا مزيدًا
من اللاجئين إلى عبور الحدود نحو تركيا، وقد يصل الأمر بالرجل القوي في أنقره إلى
الندم على النجاح الكارثي الذي حققته المعارضة السورية.
اتجاهات التعامل
لقد كانت تركيا الداعم الوحيد للمعارضة
السورية منذ البداية لتحقيق أهدافها بإسقاط النظام، من المرجح أن تستغل تركيا
الوضع الحالي في سوريا للتفاوض بشكل أكثر فعالية مع موسكو وطهران، ولديها إمكانية
للتوصل إلى اتفاق مع الإدارة القادمة لدونالد ترامب، وأنه يتعين على الحكومة
الأمريكية المقبلة بقيادة ترامب، التي تريد سحب القوات الأمريكية من سوريا أن
تتعاون مع تركيا.
وتولي تركيا أهمية لاستقرار الأوضاع في
الدولة المجاورة لها. وتتوقف الكثير من الأمور الآن على ما إذا كانت الجماعات
المتمردة المختلفة قادرة على الاتفاق على كيفية توزيع السلطة. على سبيل المثال،
تعتبر العلاقة بين هيئة تحرير الشام والميليشيات الكردية إشكالية. وسيتعين على
تحالف المعارضة المسلحة أن يقدم خطة واضحة لسوريا يكون للأكراد فيها كلمة ودور. من
ناحية أخرى، هناك احتمالية لتوتر علاقات تركيا مع عدة أطراف لا تقبل بالضرورة بالدور
التركي، وفي مقدمتها روسيا وإيران وبعض الدول العربية، خوفًا من التدخلات التركية
وما يمكن أن تفرزه من تحديات على مسار الحل في سوريا.
في الختام: يؤشر الدور التركي في سوريا
على حدوث تحولات كبيرة في موازين القوى الإقليمية، مع تعهد أنقرة بضمان استقرار
سوريا وخلوها من الإرهاب. ومع تراجع النفوذ الإيراني وتحول الاستراتيجيات الروسية،
يبدو أن تركيا تواصل التربع على عرش التطورات السورية، رغم التحديات التي تواجهها
داخليًا وخارجيًا.