مصالح متداخلة...هل يمكن أن تتعاون الولايات المتحدة وتركيا في سوريا؟
كانت سوريا مصدرًا للكثير من الصراعات
بين واشنطن وأنقرة على مدى العقد الماضي، لكن أتاح سقوط نظام الأسد فرصة جديدة
للولايات المتحدة الأمريكية وتركيا للعودة إلى التعاون بشأن سوريا. والجدير
بالذكر، إنه تباينت الاستراتيجيات الأمريكية والتركية لإدارة الحرب في سوريا بشكل
حاد في عام 2014، حيث قلصت الأولى استراتيجيتها لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في
العراق والشام (داعش) بينما حافظت الأخيرة على الدعم السياسي والعسكري للقوات
المعارضة لكل من نظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات
المتحدة. وقد أدى هذا إلى إيجاد لعبة محصلتها صفر للحليفين. أسفرت العمليات الأمريكية ضد داعش عن تفاقم
التهديد الرئيسي للأمن القومي التركي من خلال تعزيز وحدات الدفاع الشعبي (أو وحدات
حماية الشعب، المكون المسيطر على قوات سوريا الديمقراطية والتابعة لشبكة حزب
العمال الكردستاني المعادية لتركيا). وفي الوقت نفسه، هددت العمليات التركية ضد
وحدات حماية الشعب بزعزعة استقرار الظروف الأمنية الهشة في المناطق التي تعمل فيها
القوات الأمريكية.
وتمكنت الولايات المتحدة وتركيا من
إدارة التوترات الناجمة عن هذا الاصطفاف المضاد من خلال الدبلوماسية الحذرة، ولكن
بعد تغير هذه الظروف باتت هناك فرصة للعودة إلى التعاون الذي ساد في الأيام الأولى
للثورة السورية (على وجه التحديد في الفترة من عام 2011 إلى عام 2013).
أولاً: ردود الفعل الأمريكية
التركية على سقوط بشار الأسد
لم يتوقع سوى قِلة من الناس قبل شهر أن
ينتقل بشار الأسد إلى موسكو بحلول نهاية عام 2024، وأن يأتي زعيم سوري جديد؛ حيث
رأت أغلب الجهات الفاعلة الإقليمية استراتيجيات تفترض بقاء الأسد. وكانت دول
الخليج وبعض الدول الأوروبية تتجه ببطء نحو التطبيع مع سوريا. واعتبر كثيرون في
إسرائيل الأسد "العدو المعروف"، مفضلين نظامه ــ أو على الأقل دولة
ممزقة لا تخضع لسيطرة المعارضة. وكانت روسيا وإيران تعتمدان على احتمالات بقاء صديق
مخلص إلى الأبد. كانت الولايات المتحدة وأوروبا قد توصلتا إلى تسوية طويلة الأجل
تتضمن تقديم الرعاية للاجئين السوريين، والتسامح مع الأسد المؤيد لإيران في دمشق.
كانت تركيا وحدها هي التي اعتقدت أن
المعارضة السورية قادرة على البقاء والحصول على حصة من السيطرة السياسية على
سوريا، وقد استثمرت أنقرة في هذا السياق. فقد استضاف الأتراك ملايين اللاجئين
السوريين بتكلفة سياسية محلية كبيرة. كما دربوا ونسقوا صفوف المعارضة السورية
المسلحة في الوقت الذي أكد فيه الغرب على أنها غير راغبة في القتال أو غير قادرة
على إزاحة الأسد. واستضافت تركيا المعارضة السياسية وخططت لإحياء سوريا ما بعد
الأسد اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا. وساعد الأتراك في فض الصراع والتنسيق بين أكبر
فصيلين من المعارضة، هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري، عندما لم تتعامل معهم
القوى الخارجية الأخرى بجدية. وربما فوجئ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومستشاروه
بوتيرة وتوقيت التغيير في سوريا، لكنهم استعدوا بوضوح للنتيجة النهائية.
ثانياً: نقطة تحول
لقد تغيرت العوامل الرئيسية وراء العداء
بين تركيا والولايات المتحدة في سوريا بسرعة مدهشة. فبعد عقد ونصف من المعاناة
والحرب الأهلية والتدخل الأجنبي وثبات الأسد الواضح، جلب أحد عشر يوماً من القتال
انهيار حكم الأسد وتشكيل حكومة انتقالية. فبعد أسابيع قليلة من قيادة هجوم منسق في
شمال غرب سوريا، كان أحمد الشرع يستقبل وفوداً من تركيا والولايات المتحدة والخليج
والأقليات السورية. وكان الدور البارز الذي لعبه الشرع وسرعة انهيار النظام يعني
أن قدراً كبيراً من السيطرة السياسية والعسكرية على سوريا أصبح مركزياً قبل أن
تتمكن الفصائل المتنافسة أو الجهات الفاعلة الخارجية من منع ذلك.
وفي هذا السياق، لقد أشار الرئيس
المنتخب دونالد ترامب واختياره لمستشار الأمن القومي، مايك والتز، إلى أنهما لن يستمرا
في الوجود العسكري الأمريكي في سوريا أو يدعما منطقة انفصالية هناك، مما وضع تاريخ
انتهاء للدعم المفتوح حتى الآن لوحدات حماية الشعب. وقد أقر فريق إدارة بايدن في
الشرق الأوسط بأن "الانتقال الموجه" بعيداً عن سيطرة وحدات حماية الشعب
على المناطق الحساسة في شمال سوريا هو "أفضل طريقة للمضي قدماً". تُظهر
الاحتجاجات المستمرة ضد سيطرة وحدات حماية الشعب في المناطق العربية مثل دير الزور
والرقة أن السكان المحليين يفضلون الوحدة مع الحكومة الانتقالية الجديدة على الحكم
الذاتي غير المحدود الذي تفرضه وحدات حماية الشعب وبدعم من القوات الجوية
الأمريكية، ويبدو أن إعادة توحيد هذه المناطق مع دمشق وانسحاب القوات الأمريكية سيكون
قريباً.
لقد أدى انتهاء الهيمنة الإيرانية
والوصاية الروسية في دمشق إلى تضخيم وزن تركيا كشريك دبلوماسي وأمني واقتصادي
لسوريا الجديدة. وهناك امتنان حقيقي بين ملايين السوريين للدور الذي لعبته أنقرة
في إنهاء كابوس الأسد. لقد قام ملايين السوريين الآن بأعمال تجارية في تركيا
وتعلموا اللغة والثقافة؛ وهم يوفرون دائرة انتخابية طبيعية للتكامل الاقتصادي
والمشاريع المشتركة، ولاسيما تلك التي يمكن تأسيسها في مجالات الطاقة والنقل. ومن
المؤكد أن الأجهزة العسكرية والاستخباراتية التركية، التي سبق لها تدريب وبناء
القدرات المؤسسية في عشرات البلدان، ستعيد هذا الدور لقطاع الأمن في سوريا
الجديدة. ومع ذلك، أوضحت أنقرة أنها لا تسعى إلى استبدال هيمنة طهران على سوريا،
وأبلغت شركاء الخليج أن البلاد لا يمكنها إعادة البناء إلا بدعم عربي قوي.
ثالثاً: فرص التقارب من جديد
مع نهاية الوضع الراهن الذي دام عقداً
من الزمان، سينتهي التناقض بين السياسة الأمريكية والتركية في التعامل مع سوريا.
والآن تتداخل المصالح طويلة الأجل للحلفاء في عدد لا بأس به من المسائل المتعلقة
بسوريا. وتشمل هذه المصالح إرساء الاستقرار والأمن في سوريا، ومنع عودة تنظيم
الدولة الإسلامية إلى الظهور، وتعزيز الحكم الشامل والفعال، وإعادة النازحين، ووقف
الاتجار الإقليمي بالكبتاجون، وإنهاء استخدام الأراضي السورية كتهديد عسكري
لإسرائيل أو أي جيران آخرين.
إن هذه المصالح المشتركة تتوافق بشكل
جيد مع أجندة إدارة ترامب القادمة. وتشمل أولويات ترامب تعزيز الأعمال التجارية
الأمريكية والصفقات التجارية في الخارج، وإنهاء الحروب في الشرق الأوسط، وردع النفوذ
الإيراني والتحول النووي في المنطقة، وتعزيز التطبيع بين إسرائيل وجيرانها. ويعني
النموذج الجديد في سوريا أن تساهم تركيا بشكل حاسم في تحقيق كل من هذه الأولويات
وأن التعاون بين الولايات المتحدة وتركيا ضروري لنجاح السياسة الخارجية. وقد قيم
ترامب تركيا باعتبارها اللاعب الرئيسي في سوريا في تصريحاته الأخيرة، وهي علامة
جيدة على أن مثل هذا التعاون يمكن أن ينشأ.
وفي النهاية: يمكن
القول إن التقارب بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا سوف يتطلب الصبر وبناء
الثقة والبناء الدقيق للنهج التعاوني. وهناك علامات تشير إلى أن الأتراك يفهمون
الحاجة إلى التوصل إلى تسوية مقبولة مع إسرائيل من أجل أن تشهد سوريا الاستقرار
والسلام في المستقبل.
إن تحديد مستقبل سوريا سيكون عملية
بطيئة وشاقة. ولكن نهاية الوضع الراهن القديم تقدم فوائد وفرصا كبيرة للولايات
المتحدة وتركيا، وكذلك للشعب السوري. ومن بين هذه الفوائد والفرص الأساسية إمكانية
إنهاء العداء بين الولايات المتحدة وتركيا في سوريا، وتعزيز كبير لأجندة إدارة
ترامب في الشرق الأوسط.