مأزق صفقة القرن...كيف تؤثر عودة ترامب على مستقبل القضية الفلسطينية؟
وعد دونالد ترامب خلال حملته
الانتخابية بحل الأزمات في الشرق الأوسط، لكنه لم يقدم سوى القليل من التفاصيل حول
الكيفية التي قد يحقق بها مثل هذه النتيجة. ولكن يظل ترامب بمثابة
ورقة رابحة. فهو خالٍ من عبء المساعدة في حرب إسرائيل الحالية، ويفخر بأنه صانع
صفقات، ويبدو أنه يتمتع بنفوذ أكبر على القادة الإسرائيليين مقارنة بالرئيس
الأمريكي جو بايدن. ويمكن للمملكة العربية السعودية أن تستخدم علاقتها الجيدة مع
ترامب لدفعه نحو الاعتراف باحتياجات وحقوق الفلسطينيين. وعلاوة على ذلك، ستعتمد
السياسة الأمريكية على توازن القوى المتقلب في الشرق الأوسط، والذي أصبح أكثر تغيراً
مما كان عليه منذ عقود. والفلسطينيون ليسوا تحت أي وهم بأن ترامب هو حليفهم، لكن
البعض لا يزال يأمل في أن يسمح ببعض التغيير في المرحلة الراهنة.
أولاً: صعوبة التنبؤ بمستقبل
القضية
لقد كان ومايزال التنبؤ بمستقبل القضية
الفلسطينية محفوفاً بالمخاطر دوماً، ويصبح القيام بذلك أكثر صعوبة عندما نضع في
الحسبان سلوك ترامب المتقلب. إن ولايته الأولى في منصبه تقدم لنا أدلة حول الكيفية
التي قد يتعامل بها مع الشرق الأوسط اليوم: فعلى الرغم من أنه صرح في البداية بأنه
لا يفضل حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة، إلا أنه اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل،
وقطع المساعدات عن الأونروا والفلسطينيين، وأعلن أن المستوطنات الإسرائيلية التي
اعتبرتها واشنطن والمنظمات الدولية دائماً غير قانونية فوق القانون.
لقد بلغت سياسته في الشرق الأوسط
ذروتها في اتفاقيات إبراهيم عام 2020، وهي سلسلة من الاتفاقيات الثنائية التي قامت
بموجبها عدة دول عربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وكانت معظم الدول العربية قد
وعدت سابقاً، من خلال التوقيع على مبادرة السلام العربية لعام 2002، باستعادة
العلاقات الكاملة مع إسرائيل فقط في مقابل تحقيق حل الدولتين. ومع ذلك، كانت
الاتفاقيات مبنية على فكرة مفادها أن السلام الإسرائيلي الفلسطيني يمكن فرضه من
الخارج بمجرد إقامة العلاقات العربية الإسرائيلية - وهو عكس الحكمة التقليدية. لقد
فصلت الاتفاقيات إلى حد كبير التطبيع العربي الإسرائيلي عن مصير فلسطين.
كان ترامب يأمل أن يقترن اتفاق إبراهيم
بما أسماه "صفقة القرن": وهي خطة للسلام الإسرائيلي الفلسطيني تميل
لصالح إسرائيل بشدة، ستسمح هذه الخطة لإسرائيل بضم جزء كبير من الضفة الغربية رسمياً
ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، في مقابل الاستثمار الإقليمي والوعود بإقامة دولة
فلسطينية منزوعة السلاح وتفتقر إلى السيادة. ورغم أن ترامب تخلى عن الخطة بحلول
نهاية ولايته الأولى، فهناك سبب وجيه للاعتقاد بأنه سيحاول إزالة الغبار عنها. فقد
كان ترامب متردداً بشكل عام بشأن الدولة الفلسطينية، ولم تؤكد تخفيضاته للمساعدات
المقدمة للفلسطينيين إلا افتقاره إلى الاهتمام برفاهتهم. وبالتالي، فإن أي
"صفقة قرن" جديدة سوف تقوم على مقايضة بين الحقوق السيادية الفلسطينية
والازدهار الاقتصادي، وسوف تتوقف أيضا على إقناع الفلسطينيين بأنه لا يمكن التوصل
إلى اتفاق آخر.
لقد أدت الحرب الكارثية التي شنتها
إسرائيل على غزة إلى إضعاف الجماعات السياسية الفلسطينية على كافة الأصعدة. فلم
تعد حماس موجودة كحركة عسكرية منظمة أو حكومة في غزة. وفي الضفة الغربية، نجحت
الحملات العسكرية الإسرائيلية في إلحاق أضرار جانبية جسيمة بخلايا حماس، في حين
حاولت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية استعادة السيطرة في جنين. والآن أصبح
الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركته فتح أقل شعبية من أي وقت مضى بفضل سنوات من
الحكم غير الناجح، وعدم رغبتهما الملحوظة في التدخل في حرب إسرائيل، وعجزهما عن
تخفيف المعاناة في غزة.
ثانياً: إمكانية عودة
"صفقة القرن"
إذا طرح ترامب نسخة من صفقة القرن التي
تم طرحها في عام 2020، فلن تكون هناك وحدة سياسية فلسطينية لمقاومتها بشكل فعال.
ومن المرجح أيضاً أن يكون هناك القليل من المقاومة من الحكومات الأخرى في المنطقة،
وخاصة الآن بعد أن تم إخراج "محور المقاومة" - إيران ووكلائها - من
الخدمة. إن المانحين والمستشارين والمرشحين لترامب يقدمون مؤشرات أخرى حول الكيفية
التي قد يتعامل بها مع الشرق الأوسط - وهي أسباب للخوف بين الفلسطينيين. تبرعت
ميريام أديلسون، المليارديرة المؤيدة لإسرائيل، بأكثر من 100 مليون دولار لحملة
ترامب. قال مايك هاكابي، السفير المعين لترامب في إسرائيل، إنه "لا يوجد شيء
اسمه الضفة الغربية - إنها يهودا والسامرة"، مما يعني أن المنطقة تنتمي إلى
إسرائيل. يؤكد مرشح ترامب لمنصب وزير الدفاع بيت هيجسيث، أنه "إذا كنت تحب
أمريكا، فيجب أن تحب إسرائيل" ورفض فكرة حل الدولتين. وقال مايك والتز،
المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي، إن الإدارة ستدعم هجوماً إسرائيلياً آخر على
غزة إذا لم يصمد وقف إطلاق النار، الذي أُعلن عنه في 15 يناير 2024.
والأمر الأكثر أهمية هو أن الخطوات
التالية التي سيتخذها ترامب ستؤثر بالداخل الإسرائيلي بالتأكيد. فمنذ هجوم حماس،
نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إبقاء إسرائيل معلقة في مزاج
الانتقام الأعمى. ووفقا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب، يعارض 64% من
الإسرائيليين الآن حل الدولتين، ارتفاعا من 30% في عام 2012. وتحرص حكومة إسرائيل
على تفكيك أي تظاهر بوجود دولة فلسطينية ومؤسسات وحكومة. والواقع أن بعض
الإسرائيليين عازمون على شيء أسوأ من صفقة القرن التي طرحها ترامب. فقد اقترح
أعضاء سابقين وحاليين في الحكومة، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي
إيتامار بن جفير، استعادة المستوطنات الإسرائيلية في غزة، ونقل مئات الآلاف من
الفلسطينيين من غزة، وضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، وانهيار السلطة
الفلسطينية، ومن الواضح أن الفلسطينيين لا يستطيعون بمفردهم منع مثل هذا الهجوم.
ثالثاً: تأثير التوافق
الإسرائيلي مع ترامب
إن التوافق الشخصي بين القادة
الإسرائيليين والأمريكيين سيشكل أيضاً السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل؛ حيث يمكن
لترامب أن يُلزم نتنياهو بفعل أشياء، مثل السماح بدخول المساعدات الإنسانية التي
تشتد الحاجة إليها إلى غزة، بطرق لم يستطع بايدن أو لم يرغب في فعلها. أعلنت
الحكومة الإسرائيلية الحالية صراحة معارضتها لأي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية
والحكم الوطني وتستمر في فرض عقوبات مالية وسياسية على السلطة الفلسطينية الضعيفة.
ولكن إذا وضع ترامب نصب عينيه الانحراف عن سياسة بايدن تجاه إسرائيل، فلا ينبغي أن
يكون لديه مشكلة في التدخل في السياسة الإسرائيلية للترويج لزعيم على استعداد
لتقديم التنازلات التي أفلتت منها إسرائيل حتى الآن.
ورغم قتامة المستقبل القريب بالنسبة
للفلسطينيين، فإن هناك أموراً أخرى مجهولة ستؤثر على ما يفعله ترامب في الشرق
الأوسط. ومن بين هذه الأمور تغيير الديناميكيات الإقليمية. فقد أصبحت طهران في
موقف دفاعي، ودخل الصراع على سوريا مرحلة جديدة مع تسابق القوى الإقليمية على
النفوذ. واستغلت إسرائيل الفراغ باحتلال الأراضي السورية وقصف مخازن الأسلحة
والمنشآت العسكرية في مختلف أنحاء البلاد.
وهناك عامل آخر يتمثل في غرور ترامب:
فهو يتوق إلى مجد تأمين صفقة كبرى بين الإسرائيليين والفلسطينيين وربما تعلم من
ولايته الأولى أن الصفقة لا يمكن أن تتم دون موافقة فلسطينية وقبول عربي. وقد يكون
استعداد ترامب للانخراط في هذه الصفقة ذا قيمة كبيرة اعتمادًا على المشاركة
السعودية والفلسطينية. فقد قالت المملكة العربية السعودية إن التطبيع مع إسرائيل
"غير وارد" حتى يصبح هناك طريق إلى إقامة دولة فلسطينية.
بعد كل المعاناة التي عاشها
الفلسطينيون، فإن مستقبلهم الأكثر ترجيحاً هو مستقبل "لا حرب ولا سلام":
مقاومة وقمع على مستوى منخفض، ومواجهات مع المستوطنات الإسرائيلية، وإغاثة إنسانية
محدودة، وواقع الدولة الواحدة الذي يشبه نظام الفصل العنصري. ويبدو أن تداعيات
السابع من أكتوبر قد استنفدت الإمكانات والتبريرات اللازمة للنضال المسلح الذي
كانت منظمة التحرير الفلسطينية تدعو إليه ذات يوم والآن حماس. ولكن الإيمان بحق
الفلسطينيين في المقاومة من أجل تأمين الحقوق الوطنية والإنسانية لم يمت بأي حال
من الأحوال في الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي.
وختاماً: يمكن القول إن الوحدة الفلسطينية مع الموقف السعودي
الذي يعزز قيام الدولة الفلسطينية، قد يضع إسرائيل وترامب في موقف دفاعي ويوفر
فرصة أخيرة للتوصل إلى اتفاق عادل على أساس حل الدولتين في المنطقة.