تحديات تنصيب الشرع: اتجاهات إدارة المرحلة الانتقالية في سوريا
في مشهد سياسي متشابك ومعقد، جاء إعلان تنصيب أحمد الشرع رئيسًا
للمرحلة الانتقالية في سوريا ليضع البلاد أمام منعطف تاريخي جديد، تتداخل فيه
التوافقات الداخلية بالحسابات الإقليمية والتحديات الهيكلية. وهذا القرار يثير تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة الحكومة الانتقالية
على تحقيق الاستقرار وبناء دولة مؤسسات، بعيدًا عن الفصائلية والضغوط الخارجية.
وجاءت هذه القرارات بعدما ترأس قائد الإدارة السورية الجديدة
أحمد الشرع بقصر الشعب في دمشق اجتماعًا موسعًا للفصائل العسكرية، تقرر فيه أن
يتولى الشرع رئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية وإلغاء العمل بدستور سنة 2012،
فضلا عن حل حزب البعث العربي الاشتراكي ومجلس الشعب والجيش والأجهزة الأمنية وتشكيل
قوات مسلحة بعقيدة جديدة. ولم تتطرق القرارات المعلنة إلى مدة المرحلة الانتقالية،
أو مؤتمر الحوار الوطني التي سبق للإدارة الجديدة أن أكدت العمل على تحضيره عقب
انتهاء حكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد الذي امتد زهاء ربع قرن.
وبينما لم تحضر قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي
تضم القوى الكردية، تواجد أعضاء 18 فصيلًا آخر، بينهم هيئة تحرير الشام، وحركة
أحرار الشام، وجيش العزة، وجيش النصر، وأنصار التوحيد، وفيلق الشام، وجيش الأحرار،
وجيش الإسلام، وحركة نور الدين الزنكي، والجبهة الشامية. وكان اللافت في الأمر اتفاق الفصائل على
مخرجات المؤتمر في موقف هو الأول تقريباً على خلاف السنوات الماضية، التي شهدت
فيها الساحة السورية تنافسًا وقتالًا بين العديد منها.
وتتزايد المخاوف من توجه السلطة الجديدة نحو إقامة نظام حكم
يقصي بعض المكونات من الشعب السوري ويستبعد المرأة من الحياة العامة، رغم رسائل
طمأنة يوجهها المسؤولون إلى مختلف المكونات وبينها الأقليات الدينية وإلى المجتمع
الدولي.
وأعلن قائد الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع، إن أولويات
سوريا اليوم تتمثل بملء فراغ السلطة والحفاظ على السلم الأهلي وبناء مؤسسات
الدولة، والعمل على بناء بنية اقتصادية تنموية، واستعادة سوريا لمكانتها الدولية
والإقليمية. كما أكد على الحفاظ على
السلم الأهلي من خلال السعي لتحقيق العدالة الانتقالية ومنع مظاهر الانتقام.
مخاوف متصاعدة
تتصاعد المخاوف من أن هيئة تحرير الشام التي قادت المعارضة
السورية المسلحة للإطاحة بالرئيس بشار الأسد، تسعى إلى إنشاء حكومة شريعة إسلامية
على غرار طالبان في أفغانستان، وعلى الرغم من تطمينات رئيس المرحلة الانتقالية
أحمد الشرع، بأن سوريا وأفغانستان مختلفتان إلا أن هناك تخوفًا من التحول من حكم
حزب البعث إلى سيطرة دينية، متخفية بادعاءات أتباع إرادة الأغلبية السورية، لتفادي
الاتهامات بفرض حكم ديني متشدد. وضمن السياق ذاته، فقد أكد تعيين الشرع لوزراء
عملوا في حكومة الإنقاذ بمثابة مكافأة لهم على الانتصار، وهو ما يعني ضمنًا أن
سوريا تفتقر إلى مؤهلين لإدارة هذه المرحلة الانتقالية.
وليس ثمة ما يشير إلى أن الإدارة الجديدة تحوز رؤية سياسية
واضحة للمستقبل كإطار للتنمية الاقتصادية ومعالجة المشكلات الاجتماعية المُلحة،
وبخاصة الفقر والبطالة، وأن ما يمكن أن يضمن انتقالًا مستدامًا لا ينقلب هو أن
تحصن الإدارة الجديدة نفسها بأكثرية سياسية واسعة، وهذه الأكثرية تقوم عبر
انتخابات حرة، لكن في الطور الحالي يمكن أن تتكون عبر تفاهمات انتقالية مع شخصيات
وتجمعات من غير التابعين لقوى دولية ومن ذوي الدور الاجتماعي الفاعل خلال سنوات
الثورة، وأن مشكلات سوريا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تدعو إلى تخفيف حدة
الاستقطاب الأيديولوجي، والتركيز بالمقابل على قضايا العدالة والحقوق والحريات،
والنمو الاقتصادي العاجل.
وفيما يتعلق بشرعية الحكومة الانتقالية فهناك إشكالية كبيرة
تتعلق بمصدر الشرعية خاصة أن القيادة الجديدة تركز جهودها على كسب الاعتراف
الدولي، بدلًا من بناء شرعية داخلية تستند إلى الشعب السوري؛ حيث يبرز تحدٍ رئيسي
يتمثل في هيمنة الفصائل المسلحة على المشهد الانتقالي، وهو ما يثير مخاوف من إعادة
إنتاج نموذج الميليشيات الحاكمة الذي شهدته دول مثل ليبيا والسودان.
تحديات قائمة
يواجه القادة الجدد لسوريا عقب الإطاحة ببشار الأسد عدة تحديات،
أولها الأمن، وتوحيد السلاح في وزارة واحدة للدفاع، لكن هناك فصائل مسلحة لا تزال
ترفض هذا المسعى. وثانيها هو التوافق على هوية الدولة، التي تكوِّن إطارًا يدمج
الخلافات المتعددة، وقد كان متوقعًا أن يتحقق ذلك في المؤتمر الجامع الذي أعلنت
عنه القيادة السورية الجديدة لكن يبدو أنها تعثرت في إنجازه.
يمثل توحيد سوريا واستعادة سيادة المركز على الأرض والشعب أحد
التحديات الملحَّة التي تواجه الإدارة السورية، والذي يرتبط بصورة وثيقة بمشروع
نزع سلاح الفصائل وإعادة بناء المؤسسة العسكرية. ولأن المناطقية سمة رئيسة لمعظم
الفصائل المسلحة، فإن انضواء هذه الفصائل في وزارة الدفاع وقواتها يفضي بالضرورة
إلى تيسير عملية التوحيد وبسط السيادة. ولا ينطبق هذا الوضع كما ينطبق على محافظتي
السويداء ودرعا، وعلى شمال شرقي سوريا.
ففي السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، قال الشيخ حكمت الهجري،
الذي يجري التعامل معه باعتباره المتحدث باسم أبناء الطائفة الدرزية: إن السويداء
لن تسمح بسيطرة قوات إدارة العمليات على المحافظة والمقار الحكومية فيها، وإن
المسلحين الذين يتبعونه لن يسلموا سلاحهم إلا بعد إقرار دستور جديد.
بيد أن المشكلة الكبرى تتعلق بقوات سوريا الديمقراطية، وتؤكد
مصادر الإدارة السورية أن مفاوضات تجري بين ممثلين عن مسلحي قوات سوريا
الديمقراطية ووزارة الدفاع منذ أسابيع. وقد علَّق وزير الدفاع السوري، 19 يناير
2025 على هذه التقارير بالإشارة إلى أن وزارته لن تقبل بمنح وضع خاص في الجيش
الجديد لأي من القوى المدعوة للالتحاق بالجيش. والواضح أن تعليق وزير الدفاع كان
ردًّا استباقيًّا على ما يبدو أن قيادة سوريا الديمقراطية تطالب به من وضعية خاصة،
وكيانية منفصلة، في هيكلية وزارة الدفاع.
هناك احتمالية لأن تتعاون الفصائل وقوى المعارضة السياسية
الأخرى على تشكيل حكومة جديدة ولو بصورة مؤقتة، ولكن عملية التفاوض بشأن الشكل
النهائي للحكومة ودستور الدولة ستكون بطيئة وستتأثر بالأوزان المختلفة لكل فصيل،
وكذلك بالتدخلات الخارجية التي ستعارض أي دستور لا يراعي مصالحها كما هو الحال
بالنسبة لتركيا التي ترفض وجود دستور يمنح الحكم الذاتي للأكراد في مناطق الشمال
الشرقي لسوريا. كما أنه في حال استقرت الأوضاع ستتجه الأنظار إلى عودة اللاجئين
وإعادة إعمار سوريا، وإنهاء معاناة الشعب السوري من خلال رفع العقوبات ويتطلب حدوث
هذا الاتجاه وجود مجموعة من الشروط، منها توافر الدعم الدولي والإقليمي لتحقيق هذا
التصور.
يفترض بهذه الرؤى المختلفة، ضرورة إيجاد مساحة توافقية ومشتركة
بين هذه الرؤى المختلفة، وإن كان الهدف لا يتمثل في الوصول إلى التطابق الكامل، بل
الوصول إلى صياغة رؤية وطنية تفيد في استقرار المرحلة والتي تتكون من الأطراف
المشاركة المعبرة عن ممثلي المناطق السورية، وممثلي المكونات الدينية والقومية
والعرقية والاثنية، ومنظمات المجتمع المدني، والحراك السوري الخارجي، وأفراد
المعارضة السورية وغيرهم، ومهما تعددت المعايير، لن تغطي كل التنوع أو التعدد
السياسي والاجتماعي في سوريا خاصة أنها أول مناسبة وطنية لتنفيذ مثل هذه المعايير.
وبالتزامن مع المحاولات الدبلوماسية لإرساء حل سياسي، يظل
الواقع السوري أعقد مما يبدو عليه، فالنظام الجديد يواجه أزمات اقتصادية خانقة،
وعزلة دولية جزئية، وغياب رؤية واضحة لإعادة الإعمار وعدم القدرة على بسط النفوذ
على مختلف الأراضي السورية، وهو ما يجعل من فكرة الدولة الموحدة أمرًا صعب التحقق
في المدى القريب.
وتتأرجح سيناريوهات المستقبل بين احتمالات متباينة. فالسيناريو
الأكثر تفاؤلًا يتطلب توافقًا سياسيًا داخليًا ودعمًا إقليميًا ودوليًا، مع انفتاح
الادارة الجديدة على حلول وسطية تُشرك جميع الأطراف في رسم ملامح المرحلة المقبلة.
في هذا المسار، يمكن أن تبدأ إعادة الإعمار، ويعود جزء من اللاجئين تدريجيًا،
وتنطلق عجلة الاقتصاد. لكن هذا السيناريو يصطدم بواقع أن القوى المسيطرة على
المشهد لم تُظهر بعد استعدادًا حقيقيًا لتقديم تنازلات جوهرية.
أما السيناريو الآخر، فهو استمرار الوضع الحالي: دولة ضعيفة
بمؤسسات متهالكة، تعتمد على الحلفاء لضمان بقائها، مع استمرار العقوبات الغربية،
وتراجع الخدمات الأساسية، وغياب أي حل جذري يضع حداً للانقسام السياسي. في هذا
السيناريو، ستظل سوريا مسرحاً للتجاذبات بين الدول الإقليمية والدولية، فيما يعاني
المواطن السوري من تدهور مستوى المعيشة، دون بارقة أمل حقيقية في التغيير.
في الختام: هل ستكون سوريا استثناءً في تجارب الانتقال السياسي
في العالم العربي؟ أم أنها ستسير على خطى دول أخرى غرقت في الفوضى بسبب صراعات
داخلية وعدم وجود رؤية سياسية واضحة؟ والإجابة على هذه التساؤلات ستتضح في الأشهر
القادمة؛ حيث ستكشف التطورات القادمة مدى قدرة القيادة الجديدة على تجاوز
الانقسامات وبناء مستقبل يليق بتضحيات الشعب السوري. وأمام هذه التحديات، تظل
سوريا في مفترق طرق حاسم. فبينما يرى البعض أن المرحلة الانتقالية تمثل فرصة
تاريخية لإعادة بناء الدولة، يحذر آخرون من أن استمرار الخلافات السياسية
والعسكرية قد يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة.